معنى “الرحمن” “الرحيم” في اللغة:

الرحمةُ هي الرقِّة والتعطّف، والاسْمان مُشْتقان مِنَ الرحمة على وجه المُبالغة، و”رحمن” أشد مبالغةً من”رحيم”، لأنّ بناء فُعْلان؛ أشد مُبالغةً من فعيل، ونظيرهما نديمٌ وندمان.
وفي كلام ابن جرير؛ ما يُفْهم منه حكاية الاتفاق على هذا .
واتفق أكثر العلماء على أنَّ اسم”الرحمن” عربيٌ لفظه، أما إنْكار كفار قريش يوم الحُدَيبية؛ لمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه:”اكتبْ (بسم الله الرحمن الرحيم)”، فقال سهيلٌ: أما” الرحمن” فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتبْ: باسْمكَ اللهم، كما كنتَ تكتبُ .

وفي قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) (الفرقان: 60).

فالظاهر أنه إنكار جُحودٍ؛ وعنادٍ وتعنّت.
ومما يدلُّ على أنهم كانوا يعرفون هذا الاسْم؛ قوله تعالى حكاية عنهم: (وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم) (الزخرف: 20).
وقد ردّ ابن جرير الطبري بشدِّة على مَنْ قال: إنّ العربَ كانت لا تَعرف”الرحمن” فقال: وقد زعم أهل الغباء: أنّ العربَ كانت لا تعرف الرحمن اهـ. وبيّن أنّ ذلك كان جُحوداً.

اسم الله “الرحمن” و “الرحيم” في القرآن الكريم:

ذُكر“الرحمن” في القرآن سبعاً وخمسين مرة، منها:
قوله تعالى: (وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 163).
وقوله سبحانه: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم: 93).
وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5).
وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) (الفرقان: 26).
وأما اسمه“الرحيم” فقد ذكر مائةً وأربعَ عشرة مرة؛ منها:
قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 54).
وقوله: (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143).
وقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهو كثيرٌ في الكتاب، انظر مثلاً (البقرة:173،182، 199).

وقوله تعالى: (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 129). وقوله سبحانه: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 39).
وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90)
وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تردّدت مراراً في الشعراء. وقوله: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور: 28).
وقوله: (رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (الإسراء: 66).

معنى “الرحمن” و”الرحيم” في حق الله تبارك وتعالى:

الاسْمان : مُشتقان من الرَّحمة؛ و”الرَّحْمن” أشدّ مبالغة من”الرحيم”.
ولكنْ ما الفرقُ بينهما؟ هناك قولان في الفرق بين هذين الاسْمين:
الأول: أنّ اسم”الرحمن”: هو ذو الرَّحمة الشَّاملة؛ لجميعِ الخَلائق في الدنيا؛ وللمُؤمنين في الآخرة.
و”الرحيم”: هو ذُو الرَّحمة للمؤمنين يوم القيامة، واسْتدلوا بقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: 59).
وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) فذكر الاسْتِواء باسْمه”الرحمن” ليعمَّ جميعَ خَلقه برحمته. وقال: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب: 43). فخصَّ المؤمنين باسْمه”الرحيم” .
والقول الثاني: هو أنّ”الرَّحمن” دالٌ على صفةٍ ذاتية؛ و”الرحيم” دال على صفة فعلية.

قال ابن القيم رحمه الله:”إنَّ”الرحمن” دالٌ على الصَّفة القائمة به سبحانه، و”الرحيم دالٌ على تعلّقها بالمَرْحوم، فكان الأول للوصف؛ والثاني للفعل. فالأول: دالٌ على أنَّ الرَّحمة صفته، والثاني: دالٌ على أنه يَرْحم خَلْقه برحمته. وإذا أردت فهم هذا؛ فتأمَّل قوله: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب: 43) (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 117)، ولم يجئ قطُّ”رحمنٌ بهم”؛ فعُلم أنّ”رحمن” هو المَوصوف بالرَّحمة؛ و”رحيم” هو الراحم برحمته. وهذه نُكتةٌ لا تَكاد تَجدها في كتابٍ، وإنْ تنفّست عندها مِرْآة قَلْبك؛ لم ينْجلِ لك صُورتها” اهـ

و”الرحمن” من الأسماء التي منع الله من التسمية بها، كما قال: (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) (الإسراء: 110)، فعاد به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره وهو”الله”.

وأما”الرحيم” فإنه تعالى وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128). فيقال: رجل رحيم. ولا يقال: رحمن.

قال ابن كثير:”والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم من الرحيم، لأنَّ التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء؛ فلهذا ابتدأ بالأخصّ فالأخص” اهـ
وكذا الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك، فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخصّ وأعْرف.

من آثارُ الإيمان باسم الله “الرحمن” و”الرحيم”:

1- إثباتُ صِفة الرحمة لله رب العالمين:
مِنْ صفات الله الثَّابتة بالكتاب والسُّنة:”الرحمة”، وهي صفة ُكمالٍ لائقة بذاته، كسائر صفاته العلى، لا يجوز لنا أنْ ننفيها أو نعطّلها، لأنَّ ذلك من الإلحاد في أسمائه.
أما قول الزمخشري وأصحابه: إنَّ الرحمة مجاز في حق الله تعالى؟!! وأنها عبارة عن إنْعامه على عباده، فهي نزغةٌ اعتزالية؛ قد حَفِظ اللهُ تعالى منها سلف المسلمين؛ وأئمة الدّين، فإنهم أقرّوا ما وَردَ على ما وَرَد، وأثبتوا لله تعالى؛ ما أثبته الله تعالى لنفسه؛ وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم؛ مِنْ غير تصرّفٍ بكناية أو مَجاز، وقالوا: لسْنا أغْيرُ على الله من رسوله؟! .
وقد ردّ ابن القيم رحمه الله تعالى؛ على القائلين بأنّ رحمةَ الله مجاز؛ رداً مفصَّلاً، وأتى بما لا مزيدَ عليه؛ في كتابه”الصَّواعق المُرسلة على الجهمية والمُعَطِّلة”.

2- ظُهُور آثار رَحْمة الله سبحانه على الخَلْق بجَلاء:
قال ابنُ القيم رحمه الله:” إنَّ ظُهور هذه الصّفة في الوجود؛ كظُهورِ أثر صفة الربوبية والمُلك والقُدرة، فإنَّ ما للّه على خَلْقه من الإحْسَان والإنعام، شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وسِعتْ كلَّ شيء، كما أنَّ المَوجودات؛ كلّها شاهدةٌ له بالربوبية التامّة الكاملة.
وما في العالم مِنْ آثار التدبير؛ والتَّصريف الإلهي؛ شاهدٌ بمُلكه سبحانه. فجَعْلُ صفة الرّحمة؛ واسم الرحمة؛ مجازاً؛ كجعل صفة الملك والربوبية مجازاً؟! ولا فرقَ بينهما في شرعٍ ولا عقلٍ ولا لغة.

وإذا أردت أنْ تَعْرف بُطلان هذا القول، فانْظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصّة والعامّة.

فبرحمته: أرسلَ إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزلَ علينا كتابه؛ وعلّمنا مِن الجهالة، وهدانا من الضَّلالة، وبصّرنا مِنَ العمى، وأرشدنا من الغي.

وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله؛ ما عرفنا به أنه ربّنا ومولانا.

وبرحمته عَلَّمـنا ما لم نكنْ نعلم، وأرْشدنا لمصالح ديننا ودنيانا.

وبرحمته أطْلع الشمس والقمر؛ وجعل الليل والنهار، وبسط الأرضَ؛ وجعلها مهاداً وفراشاً وقَرَاراً، وكفاتاً للأحْياء والأموات.

وبرحمته أنشأ السحاب، وأمْطر المطر، وأطْلع الفواكه والأقوات والمرعى.

ومِن رحمته: سخَّر لنا الخَيل والإبل والأنعام، وذلَّلها مُنقادةً للركوب والحمل؛ والأكْل والدَّر.

وبرحمته وَضَع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها؛ وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التَّراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتقّ لنفسه منها اسم”الرحمن الرحيم” وأوصل إلى خَلْقه معاني خَطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّنَ لهم أسبابَ مصالحهم برحمته. وأوْسعُ المخلوقات عَرْشه، وأوسع الصفات رحمته؛ التي وَسِعت كل شيء.

ولما اسْتوى على عرشه بهذا الاسْم؛ الذي اشتقَّه مِنْ صفته، وتُسْمَّى به دُون خَلقه، كتبَ مقتضاه على نفسه؛ يوم اسْتوائه على عَرشه، حين قَضَى الخَلْق كتاباً؛ فهو عنده وَضَعه على عرشه:” إنَّ رحمتَه سَبقت غضبَه” وكان هذا الكتاب العظيم الشأن، كالعَهْد منه سبحانه للخَلِيقة كلّها؛ بالرّحمة لهم، والعفو عنهم والصّفح عنهم والمغفرة؛ والتَّجاوز والسّتر والإمهال؛ والحِلم والأناة. فكان قيام العالم العُلوي والسُّفْلي؛ بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخَلق شأن آخر.

وكان عن صفة الرحمة: الجنّة وسُكانها وأعمالهم، فبرحمته خُلِقت؛ وبرحمته عُمِرت بأهلها، وبرحمتِه وَصَلوا إليها، وبرحمته طابَ عيشُهم فيها. وبرحمته احتجبَ عنْ خَلقه بالنُّور، ولو كَشَف ذلك الحِجاب، لأحْرقت سُبُحَات وجهه؛ ما انتهى إليه بصره مِن خَلْقه.

ومن رحمته: أنه يُعيذ مِنْ سَخَطه برضاه، ومِن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه. ومن رحمته: أن خَلَق للذّكَر من الحيوان أنثى مِنْ جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل؛ الذي به دوام التَّناسل وانتفاع الزوجين، ويمتع كلُ واحدٍ منهما بصاحبه.
ومن رحمته: أحوجَ الخَلْق بعضهم إلى بعضٍ؛ لتتمّ مصالحهم، ولو أغْنى بعضهم عن بعضٍ لتعطَّلت مصالحهم، وانحلَّ نظامُهم، وكان مِنْ تمام رحمته بهم: أنْ جعلَ فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعي، ثم أفقرَ الجميع إليه؛ ثم عمّ الجميع برحمته. ومن رحمته: أنه خَلق مائة رحمة؛ كل رحمةٍ منها طباق مابين السماء والأرض؛ فأنزلَ منها إلى الأرض رحمةً واحدة؛ نشرها بين الخَلِيقة ليَتَراحمُوا بها، فبها تعطف الوالدةُ على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوام العالم ونظامه. وتأمل قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1 – 4) كيف جعل الخَلْق والتعليم؛ ناشئاً عن صفة الرحمة؛ متعلقاً باسم”الرحمن”، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها؛ بقوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن: 78) فالاسْم الذي تبارك؛ هو الاسْم الذي افتتح به السورة، إذْ مجيء البَركةُ كلها منه، وبه وُضعت البركة في كلِّ مُبارك؛ فكلّ ما ذُكر عليه بُورك فيه، وكل ما أُخْلي منه؛ نُزعتْ منه البركة” اهـ

3- سَعَة رَحْمة اللهِ تعالى:
قال تعالى إخْباراً عن حَملة العرش؛ ومَنْ حوله، أنهم يقولون: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً) (غافر: 7). وقال سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: 156). فيُخبر تعالى شأنه عن رحمته؛ التي وَسَعت وشَمِلتْ كلّ شيء؛ في العالم العُلوي والسُّفلي، البرّ والفاجر، المُسْلم والكافر، فما مِنْ أحدٍ إلا وهو يتقلّبُ في رحمة الله تعالى؛ آناء الليل وأطراف النهار.

ولكنْ للمؤمنينَ الرحمةُ الخاصّة بهم، والتي يَسعدون بها في الدَّارين، ولذلك قال في تمام الآية السابقة: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 156). فالكافر لا رحمة له في الآخرة. وفتحَ الله تعالى أبواب رحمته للتَّائبين، فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
وقال صلى الله عليه وسلم في ذلك:” ولو يَعْلمُ الكافرُ ما عندَ اللهِ مِنَ الرَّحمة، ما قَنِطَ مِنْ جنَّته أحدٌ. وسمَّى الله تعالى وَحْيه إلى أنبيائه بالرَّحمة، كما في قوله تعالى مُخبراً عن نوح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ) (هود: 28). يُشير إلى ما خَصَّه الله به من الوحي؛ والعِلْم والحكمة. وكذلك قال صالح عليه السلام: (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) (هود: 63).
وقوله تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89). ويختار لوحيه رجالاً يختصّهم بذلك، بعلمِه وحكمته كما قال سبحانه: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران: 74).

4- رَحْمةُ اللهِ تَغْلبُ غضبه:
وقد ثبت في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لما خَلَق الله الخلق؛ كَتَبَ في كتابه – وهو يَكتبُ على نفسه؛ وهو وَضْعٌ عنده على العَرْش – إنَّ رحْمتي تَغلِب غَضَبي”. وفي رواية:” إنَّ رَحْمَتي سَبَقتْ غَضَبي”. وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام: 54). وقوله:” وهو يكتبُ على نفسه” لأنه لا آمرَ له سُبحانه؛ ولا ناهيَ يوجب عليه؛ ما يلزمه المُطالبة به، ولكنَّ الله يُنْجز عباده ما وَعَدهم؛ وهو لا يُخْلف المِيعاد.

5- لله جلَّ ثَنَاؤُه مائة رَحْمـة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” إنَّ اللهَ خَلَق الرحمةَ يومَ خَلَقها؛ مائةَ رحمة – وفي رواية: كلّ رحمةٍ طِبَاق ما بين السماءِ والأرض – فأمْسكَ عنده تسعاً وتسعين رحمةً؛ وأرْسلَ في خَلْقه كلّهم؛ رحمةً واحدة.
وفي رواية:” إنَّ لله مائةَ رحمة، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنّ والإنس؛ والبَهائم والهوامِّ، فبها يَتعاطفُون؛ وبها يَتَراحمُون، وبها تَعْطفُ الوَحْش على وَلَدها – وفي رواية: حتى تَرْفع الدّابة حافرها عنْ ولدها؛ خَشيةَ أنْ تُصِيبه – وأخَّرَ الله تسعاً وتسعين رحمةً؛ يَرْحم بها عباده يوم القيامة.

6- الله سُبْحانه وتعالى أرْحَمُ بعبادِه مِنَ الأُم بولَدِها:
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قُدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَبيٍ، فإذا امرأة من السَّبي تَبْتغي – وفي رواية البخاري: تَسْعى – إذْ وَجَدت صَبياً في السَّبي؛ أخَذته فألْصقته ببطنها وأرْضعته؛ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أتَرونَ هذه المَرأة؛ طارحةً ولدها في النار؟” قلنا: لا والله ! وهي تَقْدر على أنْ لا تَطْرَحه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” اللهُ أرحمُ بعبادهِ؛ مِنْ هذه بَولدها”.

7- اتِّصَافُ الإنْسَان بالرَّحْمـة:
خُلُق الرَّحمة مِنَ الأخْلاق العظيمة؛ التي حضَّ الله سبحانه عباده على التَّخلّق بها، فقد مدحَ بها أشرفَ رُسُله؛ فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107). وقال: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128). وقال سبحانه: (فبما رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159). ومِنْ أسْمائه صلى الله عليه وسلم أنه:” نبيُّ الرَّحْمة”. ومَدَح النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أصحابه مِنْ بعده؛ بهذه الصّفة؛ فقال:” أرْحمُ أُمتي بأمتي: أبو بكر…. وبيّن صلى الله عليه وسلم أنّ الرَّحمة؛ تَنال عباده الرُّحماء، فقال:”إنما يَرْحمُ اللهُ مِنْ عبَادِه الرُّحَمَاء”.

وفي رواية:” لا يَرْحَمُ الله مِنْ عبادِه؛ إلا الرُّحَمَاء”. وقال:”مَنْ لا يَرْحمُ الناسَ؛ لا يَرْحَمُه اللهُ”. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قَدِمَ ناسٌ من الأعْراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: أتُقبِّلُونَ صِبْيانكم؟، فقالوا: نعم، فقالوا: لكنَّا – والله – ما نُقبّل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” وأمْلِكُ إنْ كان اللهُ نَزَعَ مِنْكم الرَّحمة؟”. وفي رواية:”مِنْ قلْبك الرّحمة. وهذه الأحاديث وغيرها؛ فيها بيانُ فضل الرّحمة والتخلّق بها، وأنّ الشَّقي هو الذي نُزِعتْ مِنْ قلبه الرَّحمة، لأنَّ ذلك معناه المَنْع من الدخول؛ في رحمة الله تعالى.

8- طاعةُ اللهِ ورسُوله سَبَبٌ للرَّحْمـة:
واعلم أنه كلما كان الإنْسانُ أقربُ إلى الله تعالى؛ كانت رحمةُ الله أوْلى به، أيّ: كلما كان العبدُ طائعاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، عاملاً بما أمره به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ منتهياً عما نهاه الله ورسوله عنه، كان اسْتحقاقه للرحمة أعظم. قال الله تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132). وقال عز وجل: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام: 155). وقال سبحانه: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور:56). وقال سبحانه: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسنينَ) (الأعراف: 56).

9- تسْمية اللهِ سُبحانه وتعالى بعضَ نِعَمه بالرّحمة: كالمطر: في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه) (الأعراف: 57)، أي: يرسل الرياح تبشر بقدوم الغيث. وسمّى رزقه بالرّحمة؛ في قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً) (الإسراء: 28). أي: إذا سَألك أقاربك وليس عندك شيءٌ؛ وأعْرضتَ عنهم لفقد النفقة، فقُلْ لهم قولاً مَيْسوراً، أي: عِدْهم باللين؛ فقل: إذا جاءَ رزقُ الله؛ فسنصلكم إنْ شاء الله ونعطيكم. وسمّى الله كتابه العزيز بالرّحمة؛ في غير ما آيةٍ، كقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89). وقوله: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 52). وسمّى اللهُ سبحانه الجنَّة بالرحمة؛ وهي أعظمُ رحمةٍ خَلَقها الله لعباده الصالحين، قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران: 107). وقال: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الإنسان: 31). وغيرها من الآيات الكريمة.

10- العَزْمُ عند سُؤالِ الله سُبحانه الرَّحمـة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” لا يقولنَّ أحدُكم: اللهم اغفرْ لي إنْ شئتَ، اللهم ارْحَمْني إنْ شئتَ، ليَعزم في المَسْألة، فإنه لا مُستكرهَ له”. وفي رواية:” وليَعْزم مَسْألتَه، إنه يفعلُ ما يشاءُ؛ لا مُكْره له”.
أي: إذا دعوتم الله فاعزموا في الدُّعاء، أي: اجْزموا ولا تردّدوا، مِنْ: عزمتُ على الشيء؛ إذا صمّمت على فعله، وقيل: عَزْمُ المسألة؛ الجزمُ بها من غير ضَعْفٍ في الطَّلب. وقوله:” لا مكره له” لأنّ في الاسْتثناء والتَّعليق؛ صورة المُستغني عن الشيء. أو لأنّ التعليقَ يُوهم إمْكان إعْطائه على غيرِ المشيئة، وليس بعد المَشيئة؛ إلا الإكْراه، والله لا مُكره له.
اللهمَّ رحمتك نرجو، فلا تَكلنا إلى أنفسِنا طَرْفة عَين.

من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.