معنى “البر” في اللغة: البِرُّ: الصّدْق والطاعة، والبَرُّ: الصادق. والبِرُّ: خلاف العقوق. تقول بَرِرْتُ والدي؛ أبَرُّهُ بِراً؛ فأنا بَرٌّ به وبارٌّ. وفلانٌ يبَرُّ خالِقَهُ ويتبرَّرُه، أي: يُطيعه، وبرَّ فلانٌ في يمينه، أي: صَدَق. وأبرَّ فلانٌ على أصحابه: أي: علاهم وغلبهم، والإبْرار: الغلبة والمُبِرُّ: الغالب. وقال القرطبي: البِرُّ هو الاتساع في الإحسان والزيادة.. ومنه يقال: أبرَّ على صاحبه في كذا، أي: زاد عليه: وسُمِّيت البريَّة بريَّةً؛ لاتساعها. اسم الله “البر” في القرآن الكريم: ورد مرة واحدة في قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور: 28). معنى “البر” في حق الله تبارك وتعالى: قال ابن جرير: (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) يعني: اللطيف بعباده. وقال الزجاج بعد أنْ ذكر معنى (البر) لغة: والله تعالى بَرٌّ بخَلقه؛ في معنى: أنه يُحْسنُ إليهم، ويُصْلح أحْوالهم. وقال الخطابي: (البَرُّ) هو العَطوفُ على عباده، المحسنُ إليهم، عمَّ ببره جميعَ خَلْقه، فلم يَبْخَلْ عليهم برزقه. وهو البرُّ بالمُحْسن؛ في مُضاعفته الثواب له، والبرُّ بالمسيء؛ في الصَّفْح والتجاوُز عنه. وفي صفات المخلوقين: رجلٌ بَرٌّ وبارٌّ، إذا كان ذا خَيرٍ ونفعٍ، ورجلٌ بَرٌّ بأبويه، وهو ضدُّ العاق. وقال الحليمي: (البَرُّ) ومعناه الرفيق بعباده، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ولا يُؤاخذهم بجميع جناياتهم، ويجزيهم بالحَسَنة عشر أمثالها، ولا يجزيهم بالسيئة إلا مثلَها، ويكتب لهم الهَمَّ بالحسنة، ولا يكتب عليهم الهمَّ بالسيئة. وقال القرطبي بعد أنْ حكى معنى الاسم لغة: وهذا الوصف في الله تعالى مِنْ أوْصاف فعله، وهو مُضاف إلى عباده كلِّهم في الدنيا، وإلى الخُصوص في الأخْرى، وذلك أنَّه ما مِنْ شخصٍ في الدنيا؛ إلا وَسِعه مِن الله تعالى؛ وفاضَ عليه إحْسانه، ولذلك عمَّ في قوله: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20). وأما في الأخرى؛ فلا يختصُّ ببر الله تعالى؛ إلا مَنْ أنعم عليه بجواره، وأسْكنه بُحْبُوحةَ أنواره، لا مَن أحلَّه في ناره. من آثار الإيمان باسم الله “البر” 1- الله تبارك وتعالى بَرٌّ رحيمٌ بعباده، عطوفٌ عليهم، مُحسنٌ إليهم، مُصْلحٌ لأحوالهم في الدنيا والدين. أما في الدنيا: فما أعطاهم وقسم لهم؛ من الصحة والقوة؛ والمال والجاه؛ والأولاد والأنصار، مما يَخْرج عن الحَصر، قال سبحانه (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34) فيدخل في ذلك كلُّ معروفٍ وإحسان، لأنها ترجع إلى البّر. ويشترك في ذلك المؤمن والكافر؛ والبّر والفاجر. وأما في الدّين: فما منَّ به على المؤمنين؛ مِنَ التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعْطائهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة، وهو الذي وفَّق وأعان أولاً، وأثاب وأعْطى آخراً. فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمْداد، فله الحمدُ في الأولى والمعاد. 2- من برِّه سبحانه بعباده: إمْهاله للمُسِيء منهم، وإعْطاؤه الفُرْصة بعد الفرصة؛ للتَّوبة والرجوع إليه، مع قُدْرته على المعاجلة بالعقوبة. قال سبحانه: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف: 58). قال الإمام ابن القيم رحمه الله؛ في شرحه لِلَطائف أسْرار التوبة: ومنها: أنْ يَعْرف بِرَّه سبحانه في سَتره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رويته له، ولو شاء لفضحه بين خَلْقه فحذروه، وهذا من كمال برّه، ومن أسمائه (البَرُّ) وهذا البّر مِنْ سيده؛ كان به مع كمال غِناه عنه؛ وكمال فَقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنّة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشُهود ذلّ معصيته، فإنّ الاشتغال بالله؛ والغَفْلة عما سواه: هو المَطْلب الأعلى، والمقصد الأسْنى. ولا يُوجب هذا نسيان الخَطيئة مُطلقاً؛ بل في هذه الحال، فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة، وذكر الجناية، ولكلِّ وقتٍ ومقام؛ عبودية تليق به. ومنها: شُهودُ حِلْم الله سبحانه وتعالى؛ في إمْهال راكب الخطيئة، ولو شاءَ لعَاجله بالعُقوبة، ولكنه (الحليم) الذي لا يَعْجل، فيُحدث له ذلك معرفة ربّه سبحانه باسمه (الحليم) ومشاهدة صِفة” الحِلْم” والتعبّد بهذا الاسم، والحِكمة والمصْلحة الحاصلة مِنْ ذلك بتوسط الذَّنْب: أحبّ إلى الله، وأصْلح للعبد، وأنفع من فَوتها، ووجود الملزوم بدون لازمه؛ ممتنع. ومنها: معرفة كَرَمَ ربِّه؛ في قَبَول العُذر منه إذا اعْتذر إليه، بنحو ما تقدم من الاعتذار، لا بالقدر! فإنه مخاصمة ومحاجة، كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيُوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشُكره، ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإنَّ محبتك لمن شَكَرك على إحْسانك وجازاك به، ثم غَفَر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها: أضعاف محبتك على شُكر الإحسان وحده، والواقع شاهدٌ بذلك، فعبودية التوبة بعد الذَّنب لونٌ، وهذا لون آخر. ومنها: أنْ يَشْهد فضله في مغفرته، فإنّ المغفرة فضلٌ من الله ، وإلا فلو أَخَذك بمحض حقّه، كان عادلاً محموداً، وإنّما عفوه بفضله لا باسْتحقاقك، فيُوجب لك ذلك أيضاً شُكراً له ومَحبة، وإنابةً إليه، وفرحاً وابتهاجاً به، ومعرفة له باسْمه” الغفار” ومُشاهدة لهذه الصفة، وتعبداً بمقتضاها، وذلك أكمل في العبودية، والمَحبة والمعرفة. 3- الله تبارك وتعالى بارٌّ بأوليائه، صادقٌ فيما وَعَدهم به مِنَ الأجر والثواب (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ) (الأعراف: 44). (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزمر: 74). 4- الله جل شأنه بَرٌّ يُحبُّ البرَّ ويأمر به، ويحب من يتخلَّقُ به من عباده الأبرار. ومن أجمع الآيات التي ذكرت أعمال البِرِّ قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177). وأثنى تعالى على ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام ببرهما أبويهما، فقال في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم: 32). وفي وصف يحيى عليه الصلاة والسلام (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) (مريم: 14). وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ الأخلاقِ الفاضلة الحسنة من البرِّ، فعن النوَّاس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال:” البرُّ حُسْنُ الخُلُق، والإثمُ ما حاكَ في صَدْركَ، وكَرِهْتَ أنْ يطَّلعَ عليه النَّاسُ”. 5- لن ينال العبدُ برَّ الله تعالى به في الآخرة، إلا باتباع ما يُفضي إلى برِّه ومرضاته ورحمته، قال تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 92). وقد فُسِّر (البر) في هذه الآية بالجنة وثواب الله تعالى. قال قتادة: لن تنالوا برّ ربكم؛ حتى تنفقوا مما يُعجبكم؛ ومما تهوون من أموالكم. وقال ابن جرير: لن تدركوا أيها المؤمنون (البّر) وهو البر من الله؛ الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه، وعبادتهم له، ويرجونه منه، وذلك تفضله عليهم بإدخالهم جنته؛ وصَرْف عذابه عنهم، ولذلك قال كثيرٌ من أهل التأويل: البّر: الجنة، لأنَّ برَّ الربِّ بعبده في الآخرة؛ وإكرامه إياه؛ بإدخاله الجنة. ومما يدخل في هذا المعنى: قوله صلى الله عليه وسلم:” إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يَهْدي إلى الجنة، وإنَّ الرجل ليَصدُقُ حتى يُكتب صدِّيقاً، وإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجور، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النار، وإنَّ الرَّجل يكذبُ حتى يُكتبَ كذَّاباً”. قال الحافظ ابن حجر: البّر أصْله: التوسّع في فعل الخير، وهو اسم جامعٌ للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم. وقوله:” وإن البر يهدي إلى الجنة”: مصداقه في كتاب الله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) قاله ابن بطال. 6-“لا تظن أن قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وإنَّ الفُجّار لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار: 13- 14) مختصٌّ بيومِ المعاد، بل هؤلاء في نَعِيم في دُورهم الثلاثة، وهؤلاء في جَحِيم في دُورهم الثلاثة. وأيُّ لذةٍ وأيُّ نعيمٍ في الدنيا؛ أطيبُ مِنْ بِرِّ القلب، وسَلامة الصَّدر، ومعرفة الربِّ تبارك وتعالى ومحبته، والعمل على مُوافقته؟ وهل العيش في الحقيقة؛ إلا عيشُ القلب السّليم؟ وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على خليله عليه السلام؛ بسلامة قلبه؛ فقال: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات: 83 – 84). وقال حاكياً عنه؛ أنه قال: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88 – 89). والقلبُ السليم: هو الذي سَلِمَ من الشّرك، والغلِّ والحقد والحَسَد والشُّح والكبر، وحبّ الدنيا والرياسة، فسَلمَ مِنْ كلّ آفة تُبعده مِنَ الله، وسلمَ مِنْ كل شُبْهة تُعَارض خبره، ومِنْ كلّ شهوةٍ تُعارض أمره، وسَلِم من كلّ إرادةٍ تُزاحم مراده، وسَلِم مِنْ كل قاطعٍ يقطع عن الله. فهذا القَلْب السليم؛ في جنةٍ مُعجَّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد”. من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي