معنى “التواب” في اللغة:

التوبة: الرجوع من الذَّنب. وقال الأخفش: وقد تاب الله عليه: وفَّقه لها. واستتابه: سَأله أنْ يتوب. ورجلٌ توَّاب: تائبٌ إلى الله؛ والله توَّاب: يتوب على عبده. وقال الزجاج: يقال تابَ إلى الشيء يتوب توباً، إذا رجع.

وقال الزجَّاجي: التوَّاب فعَّال مِنْ تاب يتوب. وقال: وفعَّال من أبنية المبالغة، مثل: ضرَّاب؛ للكثير الضَّرْب، وقتّال؛ للكثير القتل. اسم الله “التواب” في القرآن الكريم: ورد الاسم في القرآن؛ إحدى عشرة مرةً، منها: قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37). وقوله: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 160). وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 104). وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور: 10). وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 3). معنى “التواب”في حق الله تبارك وتعالى: قال قتادة: (وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): إن الله هو الوهَّاب لعباده؛ الإنْابة إلى طاعته، الموفّق مَنْ أحب توفيقه منهم؛ لِما يرضيه عنه. وقال أبوعبيدة: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ): أي: يتوب على العِبَاد، والتوّاب مِنَ الناس؛ الذي يتوب مِنَ الذنب. وقال ابن جرير: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): إنّ الله جلّ ثناؤه هو (التواب) على مَنْ تابَ إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته – بإنابته إلى طَاعته بعد معصيته – بما سَلفَ مِنْ ذنبه. وقد ذكرنا أنّ معنى (التوبة) من العبد إلى ربه؛ إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه؛ بتركه ما يُسخطه؛ من الأمور التي كان عليها مقيماً مما يكرهه ربُّه، فكذلك توبة اللهِ على عبده، هو أنْ يرزقه ذلك؛ ويؤوب من غضبه عليه؛ إلى الرّضا عنه، ومِنَ العُقوبة إلى العفو، والصّفح عنه. وقال الزجاج: قال الله تعالى: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) (غافر: 3) أي: يَقبلُ رُجُوعَ عبده إليه، ومِنْ هذا قيل: التوبة كأنه رجوعٌ إلى الطاعة، وترك المعصية. وبنحوه قال الزجاجي، ثم قال: فجاء توَّاب على أبنية المبالغة؛ لقبوله تَوبة عباده، وتكرير الفعل منهم دفعةً بعد دفعة، وواحداً بعد واحدٍ على طول الزمان، وقبوله عزّ وجل ممن يشاء أنْ يقبل منه، فلذلك جاء على أبنية المبالغة. فالعبدُ يتوبُ إلى الله عز وجل؛ ويُقْلع عن ذنوبه، واللهُ يتوبُ عليه، أي: يقْبل توبته. فالعبد تائب، والله توَّاب. وقال الخطّابي: (التواب): هو الذي يَتُوبُ على عبده؛ ويقبل توبته، كلما تكرَّرت التوبة؛ تكرر القَبول، وهو حرفٌ يكون لازماً؛ ويكون مُتعدياً، يقال: تابَ الله على العبد: بمعنى وفَّقه للتوبة؛ فتاب العبد، كقوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ) (التوبة: 118). ومعنى التوبة: عَودُ العبدِ إلى الطاعة؛ بعد المعصية. وقال الحُليمي: (التواب) وهو المُعيد إلى عبده فضل رحمته، إذا هو رجعَ إلى طاعته، ونَدِمَ على معصيته، ولا يحبط بما قدّم من خير، ولا يمنعه ما وعد المُطيعين من الإحْسان. وقال البيهقي: هو الذي يتوبُ على مَنْ يشاء مِنْ عبيده. وفي”المقصد الأسنى”: (التواب) هو الذي يَرْجع إلى تيسير أسْباب التوبة لعباده؛ مرةً بعد أخرى؛ بما يُظهر لهم مِنْ آياته، ويُسوق إليهم مِنْ تنبيهاته، ويُطلعهم عليه مِنْ تخويفاته وتحذيراته، حتى إذا اطلعوا – بتعريفه – على غَوائل الذّنوب، اسْتشعروا الخوفَ بتخويفه؛ فرجعوا إلى التوبة، فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول. من آثار الإيمان باسم الله “التواب”: 1- الله تبارك وتعالى هو (التواب) الذي لم يَزْل يتوب على التائبين، ويَغْفر ذُنُوب المنيبين، فكل مَنْ تاب إلى الله توبة نصوحاً؛ تابَ الله عليه وقَبِله. فهو التائب على التائبين أولاً؛ بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه. وهو التائب على التائبين بعد توبتهم قَبُولاً لها؛ وعفواً عن خطاياهم. فهو سبحانه يوفِّق عباده للتوبة، ويقبلها منهم؛ ويُثيبهم عليها، فسُبحان التواب الرحيم، الجواد الكريم. قال الأقليشي: سمَّى الله سبحانه نفسه تواباً؛ لأنه خالق التوبة في قلوب عباده، ومُيسِّر أسبابها لهم، والراجع بهم من الطريق التي يكره، إلى الطريق التي يرضى. وسمَّى نفسه أيضاً (تواباً) لقبوله توبة من يرجع إليه. ومن القسم الأول: قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ) (التوبة: 118). ومِنَ القسم الثاني: قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (المائدة: 39). فبهذين القسمين سمَّى نفسه تواباً. ولقد جَهل المُعتزلي الحقيقة؛ فأنْكر القسم الأول، وهو خَلْقُ التوبة في قلب العبد، وهذا مَطْمُوس القلب عن طريق القصد. ولمَّا كانت المعاصي مُتكررة مِنَ عباده، جاء بصيغة المبالغة، ليقابل الخطايا الكبيرة بالتوبة الواسعة. وقال ابن الحصَّار: قال الله العظيم: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) (التوبة: 117) فقال في الآية الأولى: (مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ) تصريحٌ بتوبته على الإطلاق على مَنْ واقع الذنب، أو كانت منه مخالفة وعصيان. فتوبة الله على العبد؛ قد يرادُ بها تجديد التوبة؛ وتواليها عليه، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) (النساء: 136) معناه جدِّدوا الإيمان واستديموه، واثبُتوا عليه، وعليه يُحمل قوله تعالى: ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة: 6). ووصفُه نفسه بأنه (التواب) مبالغة؛ لكثرة مَنْ يتوب عليه، ولتكريره ذلك في الشّخص الواحد حتى يقضي عمره، وإذا تقرَّر أنَّ وصْفه سبحانه بــ (التواب): خَلْقُه التوبة للعبد؛ وقبولها منه، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) (الشورى: 25) أي: يَقْبل توبتهم، كما قيل له عزّ وجل: تَوّاب. 2- الله تعالى هو المتفرّد بقَبَول توبة التائبين مِنْ عباده، لا يشركه في ذلك أحدٌ من خَلقه، ولا يغفر الذنوب والخطايا إلا هو. قال القرطبي بعد أنْ نقل كلام الأقليشي وابن الحصار: وإذا ثبتَ هذا؛ فاعلم أنه ليس لأحدٍ قُدرةٌ على خلق التوبة في قلبِ أحد، لأنّه سبحانه هو المُنفردُ بخَلق الأعْمال وحده. خلافاً للمعتزلة، ومَنْ قال بقولهم. وكذلك ليس لأحدٍ أنْ يقبل توبة مَنْ أسْرفَ على نفسه؛ ولا أنْ يعفو عنه. قال ابن الحصّار: وقد كَفرت اليهودُ والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدّين، اتَّخذُوا أحْبارهم ورُهبانهم أرباباً مِنْ دُون الله عز وجل، وجعلوا لمن أذْنب أنْ يأتي الحَبْر أو الراهب فيعطيه شيئاً، ويحطُّ عنه الذَّنب !! (افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) (الأنعام: 140). وهو ما يُسمى بـ”صُكوك الغُفْران”!! وهي من ضلالاتهم الكثيرة؛ التي أضلّوا بها الناس؛ وأكلوا بها أموالهم بالباطل دُهوراً طويلة، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 34). فليس لأحدٍ من خَلْق الله تعالى – ملكاً كان أو رسولاً – سلطانٌ في محو الذنب أو ستره، أو تلقِّي الاعْتراف بالذنب، سوى الربّ التوّاب سبحانه وتعالى، إلا الشفاعة؛ وهي مِنْ بعد أنْ يأذن الله لمن يشاء ويرضى من عباده. وفي تقرير هذا يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) (آل عمران: 135). وفي الدُّعاء الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:” اللهمّ إني ظَلمتُ نفْسي ظُلماً كبيراً – أوْ كثيراً – ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغْفر لي مغفرةً مِنْ عندكَ وارْحمني، إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيم”. وفي الآية الكريمة؛ وهذا الدعاء، إقرارٌ بالوحدانية له في التوبة، إذْ معناهما: أنه لا يفعل هذا؛ إلا أنتَ، فافْعله لي. 3- جاء اسمه (التواب) مقترناً بـ (الرحيم) و (الحكيم). قال قتادة: (وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 104): إنَّ الله هو الوهَّاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفّق مَنْ أحبَّ توفيقه منهم لما يُرضيه عنه (الرحيم) بهم أنْ يُعاقبهم بعد التوبة، أو يَخذل مَنْ أراد منهم التوبة والإنابة، ولا يتوب عليه. وقال ابن جرير بعد أنْ ذكر معنى (التواب) الذي تقدّم: وأما قوله (الرحيم) فإنه يعني: أنه المُتفضّل عليه مع التوبة بالرحْمة، ورحمته إياه: إقالة عثرتَه، وصَفْحه عنْ عقوبة جرمه. وقال شهابُ الدّين الآلوسي: وجَمعَ بين وَصْفي كونه”تواباً”؛ وكونه”رحيماً”، إشارةً إلى مزيد الفَضْل، وقدَّم”التواب” لظهور مناسبته لما قبله. وقيل: في ذكر (الرحيم) بعده؛ إشارةٌ إلى أنَّ قَبول التوبة؛ ليس على سبيل الوجوب – كما زعمت المعتزلة – بل على سبيل التَّرحم والتفضّل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيَرحم عبده في عين غَضبه، كما جعل هُبُوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قُربه، فسبحانه من توابٍ ما أكْرمه، ومن رحيمٍ ما أعظمه. فيَتحصَّل من ذلك: أ ـ أنَّ الله تعالى رحيمٌ بعباده، فلا يعاقبهم بعد التوبة. ب ـ أنه تعالى لا يَخْذل؛ ولا يردُّ مَنْ جاءَ منهم تائباً، ولو بلغتْ ذُنوبه عَنانَ السماء، ومِلءَ الأرض. ج ـ أنه تعالى يَرحم عبْدَه؛ ويَقبل توبته في عينِ غَضَبه، لأنَّ رحمتَه تعالى تَسْبق غضبَه. د ـ أنّ قبوله لتوبة عباده؛ تفضلٌ منه عليهم، وهو مُقْتضى رحمته تعالى بهم. * أما عن اقتران (التواب) بـ (الحكيم): فيقول ابنُ جرير في قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور: 10) يقول تعالى ذكره: لولا فضلُ اللهِ عليكم – أيها الناس – ورحمته بكم، وأنَّه عوَّادٌ على خَلْقه بلطْفه وطَوْله، (حكيم) في تَدْبيره إياهم؛ وسياسته لهم، لعاجَلكم بالعقوبة على معاصيكم، وفَضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه سَترَ عليكم ذنوبكم؛ وتركَ فضيحتَكم بها عاجلاً، رحمةً منه بكم؛ وتفضلاً عليكم. فاشكروا نِعَمهُ، وانتهوا عن التَّقدُّم عما عنه نهاكم عنْ معاصيه، وترَكَ الجواب في ذلك؛ اكتفاءً بمعرفة السامع المراد منه. وقال البغوي في الآية نفسها: جوابُ”لولا” محذوفٌ، يعني: لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستَرَ عليكم؛ ورفعَ عنكم الحدَّ باللِّعَان، وأنَّ الله توابٌ؛ يعودُ على مَنْ يرجع عن المعاصي بالرحمة، حكيمٌ فيما فرضَ مِنَ الحدود. فيتحصَّل مما سبق: أ ـ أن الله عز وجلَّ لا يُعاجل أهلَ المعاصي بالعُقوبة، بل يُمهلهم الفُرصة للتوبة والرجوع، وهذا من حكمته تعالى ورحمته بهم. ب ـ أنه تعالى لا يفضح أهل الذنوب ابتداءً، ليكون ذلك عَوناً لهم على توبتهم. ج ـ أنه شَرعَ من الحُدود والكفارات، ما يُكفِّر به عن عباده الذّنوب والسّيئات، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. 4- لا يصحُّ تسمية الله تعالى بـ”التائب”؛ لأنَّه لم يُرد في الكتاب والسُّنة؛ تسمية الله تعالى بذلك، وإنْ كان ذلك جائزاً لغة. قال الزجاجي: فإنْ قال قائلٌ: أفيجوز أنْ يُقال: الله عزّ وجل” تائبٌ” على عباده، أي: يقبلُ توبتهم، كما قيل له عزّ وجل (توَّاب) ؟ قيل له: ليس لنا أنْ نُطلق على الله عزّوجل مِنَ الصفات؛ إلا ما أطلقه جماعةُ المسلمين، وجاء في الكتاب؛ وإنْ كان في اللغة محتملاً. أما ما جاء في”مفردات” الرّاغب: فالعبد تائبٌ إلى الله، والله تائبٌ على عبده. فهو من باب الإخبار، لا مِنْ باب التسمية. 5- التوبة هي تَرْكُ الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وُجوه الاعتذار، فإنّ الاعْتذار على ثلاثة أوجه: إما أنْ يقولَ المُعتذر: لم أفعلْ. أو يقول فعلتُ لأجل كذا. أو فعلتُ وأسْأتُ وقد أقلعت، ولا رابع لذلك. وهذا الأخير هو”التوبة”. والتّوبة في الشّرع: تركُ الذّنب لقُبحه، والنَّدم على ما فرّطَ منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتداركِ ما أمكنه أنْ يُتداركَ من الأعمال بالإعادة. فمتى اجتمعت هذه الأربع؛ فقد كَمُلَ شرائط التوبة. 6- التوبة واجبةٌ على كلّ عبدٍ، لا يصح أنْ ينفك منها في حالٍ من الأحوال، وأفضلُ الناس: هم أحسنهم قياماً بها وبحقها، فإذا تخلَّى عنها العبد؛ صار ظالماً لنفسه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومَنْزل”التوبة” أول المنازل، وأوْسطها، وآخرها، فلا يُفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممَات، وإنْ ارتحل به، واسْتصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أنّ حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31) وهذه الآية في سورةٍ مدنية، خاطب اللهُ بها أهلَ الإيمان؛ وخيارَ خَلقه أنْ يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصَبْرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علَّق الفلاح بالتوبة، تعليق المُسبب بسببه، وأتى بأداة”لعلَّ” المشْعرة بالترجّي، إيذاناً بأنكم إذا تُبتُمْ؛ كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم. قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11) قسمَ العباد إلى تائب وظالمٍ؛ وما ثمَّ قِسمٌ ثالث ألبتة، وأوقع اسم”الظالم” على مَنْ لم يتبْ، ولا أظْلم منه، لجهله بربّه وبحقه، وبعيب نفسه؛ وآفات أعماله. وفي الصحيح: عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”يا أيها النّاس، تُوبُوا إلى الله، فواللهِ إني لأتوبُ إليه في اليوم؛ أكثرَ مِنْ سَبْعين مرة”. وكان أصحابه يعُدُّون له في المجلس الواحد؛ قبل أنْ يقوم:”ربّ اغفرْ لي؛ وتُبْ عليَّ؛ إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة”. وما صلّى صلاة قطّ؛ بعد إذ أنزلت عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرها، إلا قال فيها:”سُبْحانك اللهمّ ربَّنا وبِحَمْدك، اللهم اغْفِر لي”. وصحَّ عنه: صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لن يُنجي أحَداً منكم عَملُه”، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: “ولا أنَا، إلا أنْ يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفَضلٍ”. فصلوات الله وسلامه؛ على أعْلم الخَلق بالله وحُقوقه وعَظَمتُه؛ وما يستحقّه جلاله مِنَ العبودية، وأعرفهم بالعبودية وحقوقها؛ وأقومهم بها. 7- فالتوبة لا يَسْتغني عنها أحدٌ؛ حتى الأنبياء صلواتُ اللهِ عليهم، لأنها ليستْ نقصاً، بل هي مِنَ الكمال الذي يُحبّه الله ويرضاه؛ ويأمر به. وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى قوله تعالى: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) (التوبة: 117)؛ والتوبة إنما تكونُ عن شيء يَصْدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم مَعصومٌ من الكبائر والصغائر؟ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحمدُ لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الإقْرار على الذّنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم، فإنّ الله يُحب التوّابين ويُحب المُتَطهّرين، وليست التوبة نقصاً، بل هي من أفضلِ الكمالات، وهي واجبةٌ على جميع الخلق؛ كما قال تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (الأحزاب: 72 – 73) فغاية كلّ مؤمنٍ هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حَسَناتُ الأبرار؛ سيئاتُ المقرّبين. والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار؛ عن آدم، ونوحٍ، وإبراهيمَ، وموسى وغيرهم. فقال آدم: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23). وقال نوح: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 47). وقال الخليل: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 41). وقال هو وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128). وقال موسى: (أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ) (الأعراف: 155 – 156) . وقال تعالى: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143). وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء، والله تعالى: (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222). وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 1- 3). وفي الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة:” اللهم باعدْ بيني وبينَ خَطَاياي؛ كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني مِنَ الخَطايا؛ كما يُنقَّى الثَّوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهم اغْسِلني مِنَ خَطَاياي؛ بالثَّلج والبَرَد والماءِ البارد”. وفي الصحيح: أنه كان يقول في دُعاء الاسْتفتاح:” اللهم أنتَ الملكُ؛ لا إله إلا أنتَ ربي؛ وأنا عَبْدُك ظلمتُ نَفْسِي، واعترفتُ بذَنْبي؛ فاغفر لي ذُنوبي جميعاً؛ إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت”. وفي الصحيح: أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:” اللهمَّ اغفرْ لي ذَنبي كلَّه، دقَّه وجِلَّه، علانيتَه وسِرَّه، أولَه وآخره”. وفي الصحيحين: عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:”اللهمَّ اغْفِر لي خَطيئَتي وجَهْلي؛ وإسْرافي في أمْري، وما أنتَ أعلمُ به منّي، اللهمّ اغْفر لي هَزْلي وجِدِّي، وخَطَئي وعَمْدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغْفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسْررتُ وما أعْلنتُ، وما أسْرفتُ، وما أنتَ أعلمُ به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنتَ المؤخِّر، لا إله إلا أنت”. ومثل هذا كثيرٌ في الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى: (واسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19). فتوبة المؤمنين واستغفارهم؛ هو مِنْ أعظمِ حسناتهم، وأكْبر طاعتِهم، وأجلِّ عباداتهم التي ينالون بها أجلّ الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب. فإذا قال القائل: أيُّ حاجةٍ بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟! كان جَاهلاً ! لأنهم إنما نالوا ما نالوه؛ بعبادتهم وطاعتهم، فكيف يقال: إنّهم لا يحتاجون إليها؟! فهي أفضلُ عبادتهم وطاعتهم. وإذا قال القائل: فالتَّوبة لا تكونَ إلا عن ذنبٍ، والاسْتغفار كذلك ! قيل له: الذَّنب الذي يَضُرُّ صاحبه؛ هو ما لم يَحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة؛ فقد يكون صاحبه بعد التوبةِ أفضل منه قبل الخطيئة، كما قال بعضُ السلف: كان داودُ بعد التوبة؛ أحسن منه حالاً قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر: فإنّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ هم خيار الخَليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك؛ بتوبتهم مما كانوا عليه من الكُفر والذّنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نَقْصاً ولا عيباً، بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات؛ كانوا أعظم إيماناً، وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها. ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقضُّ عُرَى الإسْلام عُروةً عروة، إذا نَشأ في الإسْلام مَنْ لم يعرف الجاهلية. وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان: 68 – 70). وقد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم:” أن الله يُحاسبُ عَبْده يوم القيامة، فيَعرضُ عليه صِغار الذنوب؛ ويخبأ عنه كبارها؛ فيقول: فعَلتَ يوم كذا؛ كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا ربّ! وهو مُشْفقٌ مِنْ كبارها أنْ تظهر، فيقول: إنّي غفرتُها لك، وأبْدلتك مكان كلّ سيئةٍ حَسَنة، فهنالك يقول: ربِّ إنَّ لي سيئاتٍ ما أراها بعد”. فالعبد المؤمن إذا تاب؛ وبدَّل اللهُ سيئاته حَسَنات، انقلبَ ما كان يضرَّه مِنَ السَّيئات بسبب توبته حسنات؛ ينفعه الله بها، فلم تَبْق الذّنوب بعد التوبة مُضِرّة، بل كانت توبته منها مِنْ أنْفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نَسِي القرآن ثم حَفِظه؛ خيراً مِنْ حِفْظه الأول؛ لم يضرّه النّسيان، ومن مَرِض ثم صحّ وقوي؛ لم يضرّه المرضُ العارض. والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوبُ منه، ليَحْصل له بذلك مِنْ تكميل العبودية والتَّضرّع، والخُشُوع لله والإنابة إليه، وكمال الحَذَر في المستقبل؛ والاجْتهاد في العبادة؛ ما لم يَحصل بدون التوبة، كمَن ذاقَ الجوع والعَطَش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاقَ الشّبعَ والرِّي؛ والعافية والغِنَى والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك؛ وحلاوته ولذته، والرغبة فيه؛ وشُكر نعمة الله عليه، والحذر أنْ يقع فيما حصل أولاً؛ ما لم يحصل بدون ذلك، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وينبغي أنْ يَعْرف: أنَّ التوبة لا بدَّ منها لكلّ مُؤمن، ولا يكمل أحدٌ؛ ويحصل له كمال القُرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره؛ إلا بها. * (كمال توبة النبي صلى الله عليه وسلم): ومحمد صلى الله عليه وسلم أكملُ الخلق؛ وأكرمهم على الله، وهو المقدّم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضلُ العابدين له، وأفضلُ العارفين به؛ وأفضلُ التائبين إليه، وتوبته أكمل مِنْ توبة غيره، ولهذا غَفَر الله له ما تقدّم مِنْ ذنبه وما تأخَّر. وبهذه المغفرة نالَ الشَّفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح:” إنَّ الناسَ يومَ القيامة يَطْلبُون الشفاعة من آدم، فيقولُ: إني نُهيت عن الأكل مِنَ الشجرة؛ فأكلتُ منها، نفْسِي نفْسي نفْسي، ويطلبونها من نوح؛ فيقول: إني دَعوتُ على أهل الأرض دَعْوةً؛ لم أُومر بها، نفْسِي نفْسي نَفْسي، ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح؛ فيقول: اذهبوا إلى محمدٍ؛ عبدٌ غَفَر اللهُ له ما تقدَّم مِنْ ذنبه وما تأخَّر. قال: فيأتوني فأنْطلق، فإذا رأيتُ ربي خَرَرتُ له سَاجِداً، فأحمدُ ربي بمحَامدَ يفتحها عليَّ لا أُحْسنها الآن، فيقول: أيْ محمد ! ارفعْ رأسك، وقُل تُسمع، وسَلْ تُعْطَ؛ واشفعْ تشفعْ، فأقول: أيْ ربِّ أمتي ! فيَحدُّ لي حَداً فأدْخلهم الجنة”. فالمسيحُ صلوات الله عليه وسلامه؛ دلَّهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبرَ بكمالِ عبوديته لله، وكمالِ مغفرةِ الله له، إذْ ليس بين المخلوقين والخَالق نسبٌ؛ إلا مَحض العبودية والافتقار مِنَ العبد، ومحض الجُود والإحْسان من الربّ عزّ وجل. وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لَن يَدخلَ أحدٌ منكم الجنة بعمله”؛ قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، إلا أنْ يتَغمّدني الله بِرَحمةٍ منه وفَضْل”. وثبت عنه في الصحيح: أنه قال: “إنَّه ليُغانُ على قلبي، وإنِّي لأسْتغْفرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مرَّة”. فهو صلى الله عليه وسلم لكمالِ عبوديته لله، وكمالِ محبته له، وافْتِقاره إليه، وكمال توبته واسْتغفاره: صار أفْضل الخَلْق عند الله؛ فإنَّ الخيرَ كلَّه من الله، وليس للمخلوق مِنْ نفسه شيءٌ، بل هو فقيرٌ من كلِّ وجه، والله غنيٌ عنه مِنْ كلّ وجه، محسنٌ إليه مِنْ كلِّ وجه، فكلما ازدادَ العبد تَواضعاً وعُبودية؛ ازْدَاد إلى الله قرباً ورفعةً، ومِن ذلك: توبته واسْتغفاره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كلُّ بني آدمَ خَطّاء، وخيرُ الخطّائين؛ التَّوّابُون”. رواه ابن ماجة والترمذي. 8- للإمام المحقق ابن القيم رحمه الله كلماتٌ رائعاتٌ، في وَصْف الإنسان؛ وحاله مع ربّه جلّ شأنه، في احتجاجه عليه بقَدَرِه، ونِسْيانه لذكره وشُكره، ثم وصْف الربّ سبحانه وسعة رحمته، وتواصل برّه وإحْسانه بعباده، وقَبُوله لتوبتهم؛ وفرحه تعالى بها… كل ذلك في هذه الخَطَرات؛ إذْ يقولُ عن هذا الإنْسان الظلوم الجهول: ” يا ويله ظهيراً للشّيطان على ربّه، خَصْماً لله مع نفسه، جَبْريّ المعاصي، قدرِيِّ الطاعات عاجز الرأي مضْياع لفرصته، قاعدٌ عن مَصَالحه، مُعاتبٌ لأقدار ربه، يحتجُّ على ربّه؛ بما لا يَقْبله مِنْ عَبْده وامرأته وأمته، إذا احتجُّوا به عليه؛ في التَّهاون في بعضِ أمْره، فلو أمرَ أحدَهم بأمرٍ ففرَّط فيه، أو نهاه عنْ شيءٍ فارتكبه، وقال: القَدَرُ ساقني إلى ذلك؟! لما قَبلَ منه هذه الحُجة، ولبادرَ إلى عقوبته. فإنْ كان القَدَرُ حجّةً لك؛ أيها الظّالم الجاهل؛ في ترك حقّ ربّك، فهلا كان حُجةً لعبدك وأمتك في ترك بعض حقّك؟ بل إذا أساءَ إليك مُسيءٌ، وجَنَى عليك جَانٍ، واحتجّ بالقَدَر؛ لاشتدَّ غضبك عليه، وتَضَاعف جُرمه عندك، ورأيتَ حُجّته داحضةً، ثم تحتج على ربّك به؟ وتراه عُذراً لنفسك؟! فمن أولى بالظّلم والجهل؛ ممن هذه حاله؟! هذا؛ مع تواتر إحْسَان اللهِ إليك على مَدَى الأنْفَاس؛ أزاح عللَك، ومَكَّنك مِنَ التزوّد إلى جنَّته، وبعثَ إليك الدليل، وأعطاك مَؤُنة السَّفر، وما تَتَزود به، وما تُحارب به قُطَّاع الطريق عليك؛ فأعْطاكَ السَّمعَ والبَصر والفؤاد، وعرَّفك الخَير والشّر، والنّافع والضار، وأرسلَ إليك رسوله؛ وأنزل إليك كتابه؛ ويَسَّره للذّكر؛ والفهم؛ والعمل، وأعَانك بمدَد مِنْ جنْده الكرام، يثبتونك ويحْرسونك؛ ويُحاربون عدوك؛ ويطردونه عنك، ويريدون منك أنْ لا تميل إليه؛ ولا تُصالحه، وهم يكفونك مؤنة، وأنتَ تأبى إلا مظاهرته عليهم، وموالاته دونهم، بل تُظاهره وتواليه دون وليِّك الحقّ؛ الذي هو أوْلى بك! قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف: 50). طردَ إبليسَ عنْ سَمائه، وأخرجه مِنْ جنته، وأبعده من قُربه، إذ لم يسْجدْ لك، وأنتَ في صُلب أبيك آدم، لكرامتك عليه، فعَادَاه وأبْعده، ثم واليتَ عدوه، ومِلتَ إليه وصالحته، وتَتَظلّم مع ذلك؛ وتَشْتكي الطَّرد والإبْعاد؟! نعم، وكيف لا يطْرُدُ من هذه معاملته؟ وكيف لا يبعد عنه من كان هذا وصفه؟ وكيف يجعل من خاصته وأهل قُربه؛ مَنْ حاله معه هكذا؟ قد أفسدَ ما بينه وبين الله وكدّره !! أمره اللهُ بشُكره، لا لحاجته إليه، ولكنْ ليَنَال به المزيدَ من فضله، فجعل كُفر نعمهِ؛ والاسْتعانة بها على مساخطه؛ مِنْ أكبرِ أسْباب صَرَفها عنه. وأمره بذكره ليَذكره بإحْسانه، فجعل نِسْيانه؛ سبباً لنسيان الله له؛ (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر: 19)؛ (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة: 67). أمره بسُؤاله ليعطيه، فلم يسْأله، بل أعطاه أجلّ العطايا بلا سُؤال، فلم يَقْبل، يَشكو مَنْ يرحمه؛ إلى مَن لا يرحمه؟ ويتظلّم ممن لا يَظلمه، ويدع من يُعاديه ويظلمه؟! إنْ أنعمَ عليه بالصِّحة والعافية؛ والمال والجاه؛ استعان بنعمه على معاصيه؟! وإنْ سُلبَ ذلك؛ ظلَّ مُتَسخّطاً على ربّه؛ وهو شاكيه! لا يَصْلح له على عَافية، ولا على ابتلاء ! العَافية تُلقيه إلى مَسَاخطه، والبلاء يدفعه إلى كفرانه؛ وجُحُود نعمته، وشِكايتِه إلى خَلْقه ! دعاه إلى بابه؛ فما وقف عليه ولا طرقه، ثم فتحه له؛ فما عرَّج عليه ولا ولجَه ! أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته، فعصى الرسول، وقال: لا أبيع ناجزاً بغائب، ونَقْداً بنسيئة، ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به ! ويقول: خُذْ ما رَأيتَ ودَعْ شيْئاً سَمعْتَ به في طَلْعةِ الشَّمسِ ما يُغْنيكَ عن زُحَل فإنْ وافق حَظُّه طاعةَ الرسول أطاعه لنيل حظِّه، لا لرضى مُرسله، لم يزل يَتمقّت إليه بمعاصيه، حتى أعرضَ عنه، وأغْلق الباب في وجهه. ومع هذا فلم يُؤيسه مِنْ رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتك، أتيتني ليلاً قبلتك، وإنْ أتيتني نهاراً قبلتك، وإنْ تقرّبتَ مني شبراً؛ تقربت منك ذراعاً، وإنْ تقرّبت مني ذراعاً؛ تقرّبت منك باعاً، وإنْ مَشيت إليَّ هرولتُ إليك. ولو لقيتني بقُراب الأرض خَطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً، أتيتك بقُرابها مغفرة، ولو بلغتْ ذنوبك عَنانَ السماء، ثم استغفرتني؛ غفرتُ لك. ومنْ أعظم مني جُوداً وكرماً؟! عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فُرشهم، إني والجن والإنس في نبإٍ عظيم: أخلقُ ويُعبد غيري؟ وأرزقُ ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازلٌ، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبَّبُ إليهم بنعمي؛ وأنا الغنيُّ عنهم، ويتبغَّضون إليَّ بالمعاصي، وهم أفقر شيءٍ إليَّ !! من أقبل إليَّ تلقيته مِن بعيد، ومَنْ أعرضَ عني ناديته مِن قريب، ومَن ترك شيئاً لأجْلي؛ أعطيته فوق المزيد، ومَن أراد رضاي؛ أردتُ ما يريد، ومَن تصرَّف بحولي وقوتي؛ ألنتُ له الحديد. أهلُ ذكري أهل مجالستي، وأهلُ شُكري أهل زيادتي، وأهلُ طاعتي أهل كرامتي، وأهلُ معصيتي لا أقَنِّطُهم من رحمتي، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، فإني أحبُّ التوابين؛ وأحب المتطهرين، وإنْ لم يتوبوا إليَّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمَصائب، لأطهَّرهم مِن المعايب. من آثرني على سواي؛ آثرته على سواه، الحَسَنةُ عندي بعشر أمثالها؛ إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئةُ عندي بواحدة، فإنْ ندمَ عليها واستغفرني؛ غفرتها له. أشْكرُ اليسيرَ من العمل، وأغفرُ الكثيرَ من الزّلل، رحْمتي سَبَقت غضبي، وحِلمي سبقَ مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحمُ بعبدي من الوالدة بولدها؛” لله أشدُّ فرحاً بتوبةِ عبده؛ مِنْ رجلٍ أضلَّ راحلته؛ بأرض مهلكةٍ دوِّية؛ عليها طعامه وشرابه؛ طَلَبها حتى إذا أيسَ من حُصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظَ فإذا هي على رأسه، قد تعلَّق خِطامها بالشجرة، فالله أفرحُ بتوبة عبده من هذا براحلته”. وهذه فرحة إحْسَان وبِرٍ ولُطف، لا فرحةَ محتاج إلى توبةِ عبده، مُنتفع بها، وكذلك موالاته لعبده إحساناً إليه، ومحبةً له؛ وبراً به، لا يتكثَّر به من قِلّة، ولا يتعزَّز به من ذلَّة، ولا ينتصر به من غَلبة، ولا يعدُّهُ لنائبةٍ، ولا يستعين به في أمر؛ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الإسراء: 111). فنفى أنْ يكونَ له وليّ مِنَ الذُّل، والله وليّ الذين آمنوا، وهمْ أولياؤه. فهذا شأنُ الربّ وشأنُ العبد، وهم يُقيمون أعذارَ أنْفسِهم، ويحملون ذُنُوبهم على أقْداره. من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي