معنى “النور” في اللغة:
النور: الضياءُ، والجمع أنوارٌ.
اسم الله “النور” في القرآن الكريم:
ورد مرة واحدة في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور: 35)
معنى “النور” في حق الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير:” يعني تعالى ذكره بقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور: 35): هادي مَنْ في السّموات والأرض، فهم بنُوره إلى الحقّ يَهْتدون، وبهُداه مِنْ حَيرة الضلالة يعتصمون”. ثم نقل أقوال المفسرين في الآية، فمنهم مَنْ قال إنّ معناها: الله مُدبّر السّموات والأرض، ومنهم مَن قال: ضياء السموات والأرض.
ثم قال بعد ذلك: وإنما اخْترنا القول الذي اخترناه في ذلك، لأنه عقيب قوله: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (النور: 34).
فكان ذلك بأنْ يكون خَبراً عن موقع يقع تنزيله مِن خَلقه، ومِن مَدح ما ابتدأ بذكر مَدْحه أولى وأشبه، ما لم يأتِ ما يدلّ على انْقضاء الخبر عنه من غيره.
فإذا كان ذلك كذلك؛ فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس؛ آياتٍ مُبينات الحقَّ مِنَ البَاطل، ومثلاً مِنَ الذين خَلَوا مِنْ قبْلكم؛ وموعظةً للمتقين، فهَدَيناكم بها؛ وبينَّا لكم معالم دينكم بها، لأني هَادي أهلَ السموات وأهل الأرض.
وقال الزّجّاج: اختلفوا في قول الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فقال بعضُهم: الله ذُو نور السموات والأرض، يريد: أنه خَالق هذا النُّور الذي في الكواكب كلِّها، لا أنه ضياءٌ لها؛ وأنوارٌ لأجْسَامها! بل أنوارٌ تَنْفصل مِنْ أنوار الله تعالى.
وقال بعضُهم: بل معنى قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: أنه بما بيَّن وأوْضح بحُججه وبراهينِ وحدانيته؛ نوَّرَ السّموات والأرض.
فتقدير الكلام على هذا: معرفة الله: (نُورُ السَّمَاوَاتِ) أو أدلته: نُورها، أو براهينه، لا يجوز غيرُ هذا!!.
وقال تلميذه الزَّجّاجي: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: يَهْتدي بنُوره مَنْ في السموات، ومن في الأرض، أي: بآياته وأعلامه الدّالة عليه، والبراهين الواضِحة النيّرة، يهتدي أهلُ السموات والأرض إلى توحيده، والإقرار بربوبيته، وتنزيهه مِنَ الأنْداد والأمثال عزّ وجل.
وقال الخطَّابي: (النور) هو الذي بنُوره يُبصرُ ذو العَمايَة، وبهدايته يَرْشُد ذُو الغواية، وعلى مثل هذا يتأول قوله جلّ وعز: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: منه نُورُ السموات والأرض. ولا يجوز أنْ يُتوهَّم أنَّ الله تعالى نُورٌ مِنَ الأنْوار، وأنْ يعتقد ذلك فيه سُبحانه !! فإنَّ النور تُضادُّه الظُّلمة، وتُعاقبه فتزيله، وتعالى الله أنْ يَكونَ له ضِدٌّ أو ندٌّ !!.
وقد يحتملُ أنْ يكون معناه: ذُو النُّور، إلا أنَّه لا يصحُّ أنْ يكون النورُ صِفةَ ذاتٍ له ! كما يصحُّ ذلك من اسم السلام؛ إذا قلنا إنه: ذُو السلام.
وإنما يكونُ ذلك صفة فعلٍ؛ على معنى إضافة الفِعل إليه، إذْ هو خالقُ النُّور ومُوجده.
وقال البيهقي: (النُّور) هو الهَادي، وقيل: المُنوِّر، وهو مِنْ صفات فعله، وقيل: هو الذي لا يَخفى على أوليائه بالدليل؛ وتصحُّ رؤيته بالأبصار. وهذه صفة يَسْتحقّها الباري تعالى بذاته.
وقال القاضي ابنُ العربي مُلخصاً الأقوال؛ في بيان معنى الاسم: وقد اختَلف الناسُ بعد معرفتهم بالنُّور؛ في وصف الخالق سبحانه بأنه (نُـور) على ستة أقوال:
الأول: معناه: هادي، قاله ابن عباس.
الثاني: معناه: مُنوِّر، قاله ابن مسعود، وروي أنّ في مُصحفه”منوّر السَّموات والأرض”.
الثالث: أنَّه مُزيِّن، وهو يرجع إلى معنى مُنور، قاله أبي بن كعب.
الرابع: أنَّه ظاهر.
الخامس: أنه ذُو النُّور.
السادس: أنّه نورٌ لا كالأنوار، قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري. قال: وقالت المعتزلة: لا يُقال: إنه نُورٌ إلا بالإضافة! قال: والصحيحُ عندنا: أنه نورٌ لا كالأنْوار، لأنَّه الحقيقة، والعُدول عن الحقيقة إلى نور هادي، أو مُنوّر، أو ما أشْبه ذلك، مجازٌ مِنْ غير دليلٍ؛ لا يصحُّ، ولأنَّ الأثرَ يَعْضده، ويصح أنْ يكونَ على هذه صِفة ذاتٍ، ويصح أنْ يكونَ صفة فعلٍ؛ على معنى أنه ظَاهر، إذْ روح النُّور: البَيان والظُّهور.
وقال السعدي: (النُّور): نورُ السَّموات والأرض، الذي نوَّر قُلوبَ العارفين بمعرفته؛ والإيمان به، ونوَّر أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنارَ السَّمواتِ والأرْض بالأنْوار التي وَضَعها، وحَجابه النُّور، لو كشَفه لأحَرقتْ سُبُحُات وجْهه؛ ما انْتَهى إليه بَصرُه مَنْ خَلْقه.
من آثار الإيمان باسم الله “النور”:
1- أنَّ (النُّور) صفةٌ من صفات ربّنا سبحانه وتعالى، ومنه اشتقّ اسم (النُّور) الذي هو أحدُ الأسْماء الحسنى. وقد أضاف الله تعالى النور إلى نفسه، إضافة الصفة إلى موصوفها، في قوله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) (الزمر: 69).
وكذا في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) (النور: 35).
فإنَّ الضمير عائد إلى الله على الصحيح من أقوال المفسرين. وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية وصْف الله تعالى بالنُّور، ثم شَرع يُبيِّن أنّ ما ذكره المفسرون مِنْ أنَّ معنى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور: 35): هادي أهلَ السموات والأرض، لا يمنع مِنْ كونه في نفسه نوراً، يقول رحمه الله:
ثم نقول: هذا القول الذي قاله بعض المفسرين؛ في قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هَادي أهل السموات والأرض، لا يَضرّنا، ولا يُخالف ما قلناه، فإنهم قالوه في تَفْسير الآية التي ذُكر النورُ فيها مُضافاً، لم يذكروه في تفسير نُور مُطْلق، كما ادّعيتَ أنتَ مِنْ ورود الحديث به، فأينَ هذا مِنْ هذا؟!!.
ثم قول مَنْ قال مِنَ السّلف: هادي أهلَ السمواتِ والأرض، لا يمنع أنْ يكون في نفسِه نوراً، فإنَّ مِن عادة السّلف في تفسيرهم؛ أنْ يَذْكروا بعض”صِفات المفَسَّر” مِنَ الأسْماء، أو بعضَ أنواعه، ولا يُنافي ذلك ثبوت بقية الصّفات للمُسمَّى، بل قد يكونان مُتلازمين، ولا دُخُول لبقية الأنواع فيه.
وهذا قد قررناه غير مرةٍ في القَواعد المتقدمة، ومَنْ تدبَّره؛ عَلِم أنَّ أكثرَ أقوال السلف في التفسير؛ مُتفقةٌ غير مختلفة، مثالُ ذلك: قولُ بعضهم في (الصِّراط المسْتَقِيم) (الفاتحة: 6): إنه الإسْلام، وقولٌ آخر: إنه القرآن، وقولٌ آخر: إنه السُّنة والجَمَاعة، وقولٌ آخر: إنه طريقُ العُبُودية، فهذه كلها صفاتٌ له مُتَلازمة، لا مُتَباينة، وتَسْميته بهذه الأسْماء؛ بمنزلة تَسْمية القُرآن والرسول بأسْمائه؛ بل بمنزلة أسْماء اللهِ الحسنى. فقولُ مَنْ قال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هادي أهلَ السَّموات والأرض؛كلامٌ صحيح، فإنَّ مِنْ معاني كونه نُور السَّموات والأرض: أنْ يكونَ هادياً لهم، أما إنّهم نَفَوا ما سِوى ذلك؛ فهذا غيرُ معلوم، وأما إنهم أرادوا ذلك؛ فقد ثبتَ عن ابن مسعود أنه قال: “إنَّ ربَّكم ليسَ عنده ليلٌ ولا نَهار، نورُ السَّموات؛ مِنْ نُورِ وَجْهه”.
وقد تقدّم عن النبي ﷺ من ذكر نُور وجهه، وفي رواية (النُّور) ما فيه كفاية فهذا بيان معنى غير الهداية. وقد أخبر الله في كتابه؛ أنَّ الأرضَ تُشْرقُ بنور ربها، فإذا كانت تُشْرق مِنْ نوره؛ كيف لا يكون هو نوراً؟
ولا يجوز أنْ يكون هذا النُّور المضاف إليه؛ إضافةَ خَلْق ومُلْك واصْطِفاء – كقوله: (نَاقةَ الله) ونحو ذلك – لوجوه:
أحدها: أنَّ النُّور لم يُضف قطُّ إلى الله؛ إذا كان صفةً لأعيانٍ قائمة، فلا يُقال في المَصابيح التي في الدنيا: إنها نُور الله، ولا في الشَّمس والقمر، وإنّما يقال كما قال عبدالله ابن مسعود: “إنَّ ربَّكم ليسَ عنْده ليلٌ ولا نهار، نُورُ السَّموات مِنْ نُور وجْهه”.
وفي الدعاء المأثور عن النبي ﷺ :” أعوذُ بنُور وَجْهِك؛ الذي أشْرَقتْ له الظُّلمَاتُ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة .
الثاني: أنَّ الأنْوار المخْلوقة كالشَّمس والقَمَر؛ تُشْرق لها الأرضُ في الدنيا، وليس مِنْ نورٍ إلا وهو خَلقٌ مِنْ خَلْق الله ، وكذلك مَنْ قال: منوِّر السَّموات والأرْض؛ لا ينافي أنه نُور، وكل مُنوَّر نُور، فهما مُتلازمان. ثم إنَّ الله تعالى ضَرَب مثل نُوره الذي في قُلوب المؤمنين، بالنُّور الذي في المِصْباح، وهو في نَفْسه نُور، وهو منوِّر لغيره، فإذا كان نُوره في القُلوب هو نُور، وهو مُنوّر، فهو في نفسه أحقُّ بذلك، وقد عُلِم أن َّكلّ ما هو نُور فهو مُنوّر.
وأما قول من قال: معناهُ منور السموات بالكواكب: فهذا إنْ أراد به قائله أنَّ ذلك؛ من معنى كونه نور السموات؛ فهو مُحق، وإنْ أراد به: ليس لكونه نور السموات والأرض معنى إلا هذا، فهو مبطل، لأنَّ الله أخبر أنه نُور السَّموات والأرض، والكواكب لا يحصل نُورها في جميع السموات والأرض.
وأيضاً: فإنّه قال: (مثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) (النور: 35): فضَرَب المثلَ لنُوره الموجود في قلوب المؤمنين، فعلم أنَّ النُّور الموجود في قُلوب المؤمنين – نُور الإيمان والعلم – مراد من الآية، لم يضربها على النُّور الحسي الذي يكون للكواكب، وهذا هو الجواب عما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى، وأبي العالية والحسن، بعد المطالبة بصحة النقل، والظنّ ضعّفه عن ابن عباس؛ لأنهم جعلوا ذلك مِنْ معاني النُّور، أما أنهم يقولون قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور: 35) ليس معناه إلا التَّنْوير بالشَّمس، والقمر والنُّجوم! فهذا باطلٌ قطعاً. وقد قال ﷺ:” أنتَ نُورُ السَّمواتِ والأرْض؛ ومَنْ فيهن” ومعلوم أنَّ العِمْيان لا حَظَّ لهم في ذلك، ومَنْ يكون بينه وبين ذلك حِجابٌ؛ لا حظَّ له في ذلك، والموتَى لا نَصِيبَ لْهم مِنْ ذلك، وأهل الجنّة لا نَصِيبَ لهم مِنْ ذلك، فإنَّ الجنةَ ليس فيها شمسٌ ولا قمر.
كيف وقد روي: أنَّ أهلَ الجنة يعْلَمُون الليل والنهار؛ بأنْوار تَظْهر مِنْ العَرْش، مثل ظُهُور الشَّمس لأهل الدنيا، فتلك الأنْوارُ خارجة عن الشَّمس والقمر.
2- تقدَّم قول الخطابي:” ولا يجوزُ أنْ يُتوهَّم أنَّ الله تعالى نُورٌ مِنَ الأنوار، وأنْ يعتقد ذلك فيه سبحانه، فإنَّ النُّور تُضَاده الظُّلمة، وتُعاقبه فتزيله، وتعالى الله أنْ يكونَ له ضِدٌّ أو ندٌّ !!”.
وقد ردَّ على هذه الشُّبهة، وبيَّن أنها ناتجةٌ مِنْ سُوء الفَهْم: الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: وأما قول المعترض: النُّور ضدُّ الظُّلمة؛ وجلَّ الحقُّ أن يكون له ضدٌ !! فيقال له: لم تَفْهم معنى الضدّ المنْفي عن الله، فإنّ”الضِّدَّ” يُراد به ما يمنع ثُبُوت الآخر، كما يقال في الأعْراض المتضادّة، مثل السَّواد والبياض. ويقول الناس: الضّدان لا يجتمعان، ويمتنع اجتماع الضدين، وهذا التَّضاد عند كثيرٍ من الناس لا يكون إلا في” الأعراض” وأما” الأعْيان” فلا تضادّ فيها، فيمتنع عند هذا أنْ يقال: لله ضدّ، أو ليس له ضد يمنع ثبوته ووجوده بلا ريب، بل هو القَاهرُ الغالب الذي لا يُغْلب.
وقد يراد بـ”الضد” المعارض لأمْره وحُكمه، وإنْ لم يكنْ مانعاً من وجود ذاته، كما قال النبي ﷺ:”مَنْ حالَتْ شَفاعتُه دُونَ حدٍّ مِنْ حُدُودِ الله، فقدْ ضادَّ اللهَ في أمْرِه”. رواه أبو داود.
وتسمية المُخالف لأمره وحكمه ضداً، كتسميته عدواً.
وبهذا الاعتبار، فالمُعادون المضادُّون لله كثيرون، فأما على التفسير الأول؛ فلا ريبَ أنه ليس في نفس الأمر مُضادٌّ لله، لكن التضاد يقع في نفسِ الكفار، فإنَّ الباطل ضدّ الحق، والكذب ضِد الصدْق، فمنْ اعتقد في الله ما هو مُنزهٌ عنه، كان هذا ضداً للإيمان الصحيح به.
وأما قوله:” النُّور ضد الظلمة؛ وجلَّ الحقُّ أنْ يكون له ضِدٌ” فيقال له: والحيّ ضدّ الميت، والعليم ضدّ الجاهل، والسَّميع والبصير؛ والذي يتكلم، ضدّ الأصمّ الأعْمى الأبْكم، وهكذا سائر ما سمَّى الله به مِنْ الأسماء لها أضْداد، وهو مُنزّهٌ عن أنْ يُسمّى بأضْدادها، فجلَّ اللهُ أنْ يكون ميتاً، أو عاجزاً؛ أو فقيراً؛ ونحو ذلك.
وأما وُجود مخلوقٍ له مَوْصوف بضدّ صفته؛ مثل وجود الميت والجاهل، والفقير والظالم، فهذا كثيرٌ، بل غالب أسْمائه لها أضداد موجودة في الموجودين.
ولا يقال لأولئك إنهم أضْداد الله ! ولكن يُقال إنّهم موصوفون بضد صفات الله. والذين قالوا:”النُّور ضد الظلمة” قالوا: يمتنع اجتماعهما في عينٍ واحدة، لم يقولوا: إنه يَمتنع أنْ يكون شيءٌ موصوفاً بأنه نورٌ، وشيءٌ آخر موصوفاً بأنه ظلمة، فليتدبّر العاقل هذا التعطيل والتخليط. (اعتراض المعترض أن يكون الرب تعالى نوراً):
وأما قوله: لو كان نوراً لم يجز إضافته إلى نفسه؛ في قوله: (مَثَلُ نُوِره) فالكلام عليه من طريقين:
أحدهما: أنْ نقول: النّصُّ في كتاب الله وسُنة رسوله؛ قد سمَّى اللهَ نورَ السَّموات والأرض، وقد أخبر النَّص أنَّ الله نورٌ، وأخبر أيضاً: أنه يحتجب بالنور، فهذه ثلاثة أنوار في النّص، وقد تقدم ذكر الأول.
وأما الثاني: فهو في قوله: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) (الزمر: 69)؛ وفي قوله: (مَثَلُ نُوره) وفيما رواه مسلم في صحيحه: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ:” إنَّ اللهَ خلَقَ خلقَهُ في ظُلمةٍ، وألقَى عليهم مِنْ نُوره، فمَنْ أصابهُ مِن ذلك النُّور اهْتَدَى، ومنْ أخْطأَه ضلَّ.
ومنه قوله ﷺ في دعاء الطائف:” أعوذُ بنُور وجْهكَ؛ الذي أشْرقتْ له الظُّلُمات، وصَلُح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرة، أنْ يَنْزلَ بي سَخَطُك، أو يَحلَّ عليَّ غضبكً. رواه الطبراني وغيره.
ومنه قول ابن مسعود: إنّ ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نُور السموات من نور وجهه. ومنه قوله: ما رواه مسلم في صحيحه: عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات، فقال:”إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفضُ القِسْطَ ويرفعه، يُرفعُ إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النَّهار قبل عمل الليل، حِجابُه النور – أو النار – لو كَشَفه لأحْرقتْ سُبُحَاتُ وجْهه؛ ما أدْركه بَصرُه من خلقِه.
فهذا الحديث فيه ذِكْر حِجابه. فإنَّ تردّد الراوي في لفظ “النار والنور” لا يمنع ذلك، فإنَّ مثل هذه النّار الصافية؛ التي كلّم بها موسى؛ يقال لها: نارٌ ونور، كما سمَّى اللهَ نار المصْباح نوراً، بخلاف النار المُظلمة، كنار جهنم فتلك لا تسمى نوراً.
فالأقسام ثلاثة:”إشْراقٌ بلا إحْراق” وهو النُّور المحض كالقمر. و”إحْراقٌ بلا إشْراق” وهي النار المظلمة، و”ما هو نار ونور” كالشمس، ونار المصابيح التي في الدنيا؛ توصف بالأمرين.
وإذا كان كذلك، صحَّ أنْ يكونَ نورُ السموات والأرض، وأنْ يُضافَ إليه النور، وليس المُضاف هو عينُ المُضاف إليه.
3- القول في تفسير قول الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ…) الآية.
لعلَّ مِنْ أحْسنِ مَنْ تعرّض لتفسيرها؛ هو الإمام ابن القيم رحمه الله ، وقبل أنْ نذكر كلامه؛ نسوق الآية بتمامها؛ يقول الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35).
فقال بعد أنْ ذكر الخلاف في تفسير: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بنحو ما سبق ذكره عن شيخ الإسلام:” وقد اختُلف في تفسير الضمير في: (نوره)؛ فقيل: هو النبي ﷺ، أي: مثل نورِ محمد ﷺ، وقيل تفسيره: المؤمن؛ أي: مثل نُور المؤمن، والصحيح أنّه يعود على الله عزَّ وجل، والمعنى: مثلُ نُورِ الله سبحانه وتعالى في قلبِ عبده، وأعظم عباده نصيباً مِنْ هذا النور: رسوله ﷺ، فهذا مع تضمنه عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمَّن التقادير الثلاثة، وهو أتمُّ معنى ولفظاً.
وهذا النُّور يُضاف إلى الله تعالى، إذْ هو مُعطيه لعبده؛ وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد إذْ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحامل ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل: هو الله تعالى مُفيض الأنْوار، الهادي لنوره مَن يشاء، والقابل: العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل: همته وعزيمته وإرادته، والمادة: قوله وعمله، وهذا التشبيه العجيب الذي
تضمنته الآية، فيه مِنَ الأسْرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن، بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم”.
4- سمَّى الله تعالى رسوله ﷺ نُوراً، في قوله تعالى: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة: 15). وسمَّى كتابه نُوراً، في قوله تعالى: (فالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157).
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً) (النساء: 174) وغيرها من الآيات. وسمَّى شرائعه وأحْكامه نوراً كذلك، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 44).
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 46). وقوله: (قلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى) (الأنعام:91).
وسمَّى الهِداية والإيْمان نُوراً، كما في قوله: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) (الأنعام: 122).
وقوله: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) (الزمر: 22).
5- كان مِنْ دُعاء النبي ﷺ في صلاته وسُجوده:” اللهمّ اجْعل في قَلْبي نُوراً، وفي سَمْعي نُوراً، وفي بَصَري نُوراً، وعنْ يميني نُوراً، وعنْ شِمالي نُوراً، وأمامي نُوراً، وخَلْفي نوراً، وفوقي نُوراً، وتَحْتي نوراً، واجعلْ لي نُوراً؛ أو قال: واجْعلني نُوراً “.
وفي رواية:” واجعلْ لي في نفسِي نوراً، وأعْظِمْ لي نُوراً”.
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي