معنى “الصمد” في اللغة:
صمده يصمِدُهُ صَمْداً، وصَمدَ إليه كلاهما: قَصَدَه. والصَّمَدُ: السَّيد المُطاع؛ الذي لا يُقضَى دونه أمر. وقيل: هو الذي يُصْمد إليه في الحَوائج؛ أي يُقْصَد. وأصْمَد إليه الأمر: أسْنده. والمصْمَدُ: لغة في المُصمت، وهو الذي لا جَوْف له.
معنى “الصمد” في حق الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير رحمه الله: واختلف أهلُ التأويل في معنى”الصَّمد” فقال بعضهم: هو الذي ليس بأجْوف، ولا يأكلُ ولا يَشْرب. ذِكْر من قال ذلك. قال مجاهد:”الصّمد” المصْمَت الذي لا جَوف له. وقال الحسن:”الصَّمد” الذي لا جَوف له، وعن عكرمة مثله. وقال الشَّعبي: الذي لا يَأكل الطَّعام؛ ولا يَشْرب الشّراب. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: هو الذي لا يخرج منه شيء. ذكر من قال ذلك: قال عكرمة: “الصَّمد” الذي لم يَخْرج منه شيءٌ، ولم يَلدْ ولم يولد. وفي رواية أخرى: الذي لا يَخْرج منه شيء. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: هو الذي لم يَلِد ولم يُولد. وقال آخرون: هو السّيد الذي قد انْتَهى سؤدده. ذكر من قال ذلك: قال أبو وائل: الصَّمد هو السَّيد الذي قد انْتَهى سُؤدده. وقال آخرون: بل هو الباقي الذي لا يفنى. ذكر مَنْ قال ذلك: كان الحسن وقتادة يقولان: الباقي بعد خَلْقه، قال: هذه سُورة خَالصة، ليس فيها ذِكْرُ شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة. وقال قتادة: “الصَّمد”: الدائم.
قال أبو جعفر: الصّمدُ عند العرب هو: السّيد الذي يُصْمد إليه، الذي لا أحَدَ فوقه، وكذلك تُسمّي أشرافها. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويلِ الكلمة، المعنى المعروف؛ مِنْ كلام من نزل القرآن بلسانه” اهـ . واختاره أبو عبيدة والزجاج. ونقل الخطابي نحو ما رواه الطبري، واختارَ ما اختاره. وقال الشَّنقيطي: من المعروف في كلام العرب إطلاق” الصَّمد” على السِّيد العظيم، وعلى الشيء المصمت الذي لا جَوف له. فإذا علمتَ ذلك، فالله تعالى هو السَّيد؛ الذي وحْده الملجأ؛ عند الشَّدائد والحاجات، وهو الذي تنزَّه وتقدَّس وتعالى عن صِفَات المخلوقين، كأكل الطعام ونحوه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيرا.
من آثار الإيمان باسم الله “الصمد”:
كلُّ ما سبق مِنَ الأقوال يصح أن يُوصَف به ربُّنا سُبحانه وتعالى، كما قال الحافظ الطّبراني في كتابه”السُّنة” – كما في” تفسير ابن كثير” (4/ 570) – بعد إيراده كثيراً من هذه الأقوال في تفسير”الصّمد” قال: وكلُّ هذه صحيحة؛ وهي صفاتُ ربنا عزَّ وجل، هو الذي يُصمَدُ إليه في الحَوائج، وهو الذي قد انْتَهى سُؤْدده، وهو الصّمدُ الذي لا جَوف له، ولا يأكلُ ولا يشربُ، وهو الباقي بعد خَلْقه. وقال البغوي: والأولى أن يُحمل لفظ”الصّمد” على كل ما قيل فيه، لأنه محتملٌ له، فعلى هذا يقتضي أنْ لا يكون في الوجود صمدٌ سِوى الله تعالى، العظيم القادر على كل شيء، وأنه اسمٌ خاص بالله تعالى انفرد به، له الأسْماء الحسنى والصفات العليا (لّيًسّ كّمٌثًلٌهٌ شّيًءِ وهٍوّ پسَّمٌيعٍ پًبّصٌيرٍ) (الشورى: 11). .
ولنفصِّل ما توجبه تلك المعاني، من آثار إيمانية؛ في قلب المؤمن بالله تعالى وصفاته. فنقول:
1- قد احْتوى هذا الاسْم على أوْصَافٍ عظيمة، ومدائح جميلة لربّنا جل في علاه، لا تنبغي إلا لمنْ تناهى سُؤدده، وعظُم فضله وجُوده؛ وهو الله وحده. فقد قالوا إنّ معنى”الصّمد”: هو الذي ليس بأجْوف، أو لا جَوف له، ولا يأكل ولا يشرب. وهو كذلك فإنه سبحانه الغَنِي عنْ كلّ شيء، وهذا مِنْ صفات كماله؛ كما قال سبحانه: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ) (الأنعام: 14). وقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذاريات: 56 – 58). وقد ردَّ الله تعالى على النَّصارى، الذين قالوا بإلهية عيسى عليه الصلاة والسلام، بقوله: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) (المائدة: 75). فدلت الآية على أن الإله الحقّ ينبغي أنْ يكونَ مُسْتغنياً عن الطعام والشراب.
2- وقالوا: إنَّ معنى”الصَّمد”: هو الذي لم يَلِد ولم يولد. وهذا حقٌّ أيضاً، فقد نَفَى الله سبحانه أنْ يكونَ له مثيلٌ أو نظير؛ أو مُكافئ لله؛ في آياتٍ لا تُحْصر، كقوله تعالى: (هّلً تّعًلّمٍ لّهٍ سّمٌيْا) (مريم: 65)، وقوله: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص: 4)، وغيرها. وإذا ثبتَ أنه ليس لله تعالى مثيلٌ، بطلَ أنْ يكونَ متولّداً مِنْ شيء، إذْ الشيء لا يتولّد إلا عن جنسه. وبثبوت ما سبق – وهو أنه ليس لله تعالى مثيلٌ – يَبْطل أنْ يكون لله ولدٌ، إذْ الولدُ لا يكون إلا عن زوجة، والزَّوجة منتفيةٌ لعدمِ المثيل، فيَنْتفي الولدُ تَبَعاً. قال سبحانه: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام: 101).
3- وقالوا: إنّ “الصّمد” هو السّيد الذي قد انْتَهى سُؤْدده. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: “الصّمد” السّيد الذي قد كمُلَ في سُؤْدده، والشَّريف الذي قد كمُل في شَرفه، والعَظِيم الذي قد كمُل في عظمته، والحَليم الذي قد كمُل في حِلْمه، والغني الذي قد كمُل في غناه، والجبّار الذي قد كَمُلَ في جَبروته، والعالم الذي قد كَمُل في علمه، والحَكيم الذي قد كمُل في حكمته، وهو الذي قد كمُل في أنواع الشَّرف والسُّؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له. فصفاتُ السُّؤْدد كلُّها كاملة له، لا يُشاركه في هذا شيءٌ من مخلوقاته.
4- وقالوا: إن”الصَّمد” الباقي؛ الذي لا يَفْنى. وهذا حقٌّ لا مِرْية فيه، فإنه سبحانه أولٌ بلا ابْتداء، دائمٌ بلا انْتهاء، كما قال سبحانه عن نفسه: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (الحديد: 3). وفسَّره النبيُّ ﷺ بقوله:”اللهمَّ أنتَ الأوَّلُ؛ فليس قبلك شيءٌ، وأنتَ الآخر؛ فليسَ بعْدَك شيء”. وقال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن: 26- 27). وكلُّ ما سبق ذكره؛ مِنْ صفات السُّؤدد والكمال، باقية له لم تَزْل ولا تزال – كذلك أبدياً – لا يطرأ عليها النَّقص؛ ولا الآفات؛ ولا الاخْتلال، كما هو شَأن المخْلوق الذي يكون سُؤدده وكماله في حالٍ دون حال، فسُبحان الواحد الصمد؛ ذي العزة والجلال. قال الأُقليشي: فعلى هذا يتشعَّبُ من صفات الصّمد، صفات السُّؤْدد كلّها، مِنَ الجُود والحلم وغير ذلك. وإذا قلنا: إنّ” الصّمد” هو العالي مِنْ قولهم: بناءٌ مصمدٌ، ومكان مرتفع، فيتشعّب مِنْ صفات”الصّمد” صفات التعالي كلّها، من العزّة والقَهْر والعُلو؛ إلى غير ذلك مما يُضَاهيه. إلى أنْ قال: فترجع حقيقة الصّمدانية في حقِّه؛ إلى قيامه بذاته واسْتغنائه عنْ غيره، واحتياج كل شيءٍ إليه، فهي صفةٌ ذاتية له سبحانه وتعالى، تارة دون إضافة إذا نُظرَ إلى عين ذاته وصمدانيته، وتارة بإضافة إذا نُظر إلى صمد الخَلْق إليه وقيامهم به، واحتياجهم إليه في جميع أمورهم.
5- ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى هذا الاسم لغةً، وفي حق الله تعالى، وما يتضمّنه من الصفات الجليلة بحثٌ موسّع طيب، ننقل منه ما يناسب هذا الموضع، قال رحمه الله: وأما اسم” الصَّمد” فقد استعمله أهل اللغة في حقّ المخلوقين، كما تقدم، فلم يقل: الله صمد؛ بل قال: (الله الصّمد) فبيّن أنّه المسْتحق لأنْ يكون هو الصَّمد دون ما سِواه، فإنه المسْتوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإنْ كان صَمَداً من بعض الوجوه، فإنَّ حقيقة الصَّمدية منتفيةٌ عنه، فإنه يقبل التفرّق والتَّجزئة، وهو أيضاً محتاجٌ إلى غيره، فإنَّ كلَّ ما سوى الله محتاج إليه مِنْ كل وجه، فليس أحدٌ يصمد إليه كلُّ شيء؛ولا يصْمدُ هو إلى شيء؛ إلا الله تبارك وتعالى، وليس في المخلوقات إلا ما يَقْبل أنْ يَتَجزّأ ويتفرّق ويتقسّم، وينفصل بعضُه من بعض، والله سبحانه هو الصّمد الذي لا يجوز عليه شيءٌ مِنْ ذلك، بل حقيقة الصَّمدية وكمالها له وحْده؛ واجبةٌ لازمة، لا يمكنُ عدمُ صمديته بوجهٍ مِنَ الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجهٍ من الوجوه؛ كما قال في آخر السورة (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) اسْتعملها هنا في النّفي، أي: ليس شيءٌ مِنَ الأشْياء كفواً له؛ في شَيءٍ مِنَ الأشياء، لأنه أحَد.
6- وإذا كان ربّنا كذلك؛ فينبغي على العباد أنْ لا يَلْجأوا إلا إليه، ولا يَطْلبوا إلا منه، فهو سبحانه”السّيد الصَّمد” الذي لا شيءَ فَوْقه، بيدِه الخير، وهو على كلِّ شيء قدير. قال القرطبي: فيجبُ على كلّ مُكلفٍ أنْ يَعْلم أنْ لا صَمَدانيةَ ولا وَحْدانية إلا لله وحْده، فلا يقصد غيره، ولا يلجأ في حوائجه إلا إليه. ثم عليه أنْ يَتَخلَّق بأخْلاق السّيادة والسّادة؛ حتى يكون مَصْموداً، وبابه مقصوداً، روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أدركتُ سعد بن عبادة ومُنادٍ ينادي على أُطَمة: مَنْ أحَبّ شَحْماً ولحماً؛ فليأتِ سَعْداً، ثم أدركتُ ابنه قَيْساً؛ يُنادي مثلَ ذلك.
7- جاء في الصحيح أنَّ سورة الإخْلاص – التي ورد فيها”الصَّمد” و” الأحد” – تعدل ثلث القرآن، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ لأصحابه: ” أيَعْجزُ أحدُكم أنْ يَقْرأ ثُلثَ القرآن في ليلةٍ؟ “فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يُطِيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: “اللهُ الواحِدُ الصَّمَدُ؛ ثُلْثُ القرآن”. ثم ذكر عن محمد بن سيرين قال: كان سعد بن عبادة يُعشّي كل ليلة ثمانين مِنْ أهل الصُّفَّة. وفي رواية:” إنَّ اللهَ جَزَّأ القُرْآن؛ ثلاثةَ أجْزاء، فجَعَل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) جُزْءاً مِنْ أجْزاء القُرآن”. قال القرطبي: اشتملتْ هذه السورة على اسْمين مِنْ أسْماء الله تعالى، يتضمَّنان جميع أصناف الكمال، لم يُوجدا في غيرهما مِنَ السُّور، وهما: “الأحْد، الصَّمد” لأنهما يدلان على أحْدية الذّات المقدّسة؛ الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك: أن”الأحد” يُشْعر بوجُوده الخاص؛ الذي لا يُشاركه فيه غيره. و”الصَّمد” يُشْعر بجميع أوصاف الكمال، لأنه الذي انتهى إليه سُؤْدده؛ فكان مرجع الطّلب منه وإليه. ولا يتمّ ذلك على وجْه التحقيق؛ إلا لمنْ حازَ جميع خِصَال الكمال، وذلك لا يَصْلح إلا لله تعالى، فلما اشتملت هذه السُّورة على معرفة الذَّات المقدسة، كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات؛ وصفات الفعل ثُلثاً. وقيل غير ذلك في معناه. من ذلك ما نقله في” الأسْنى”: وقد قيل: إنّ (قُلْ هُوَ اللهُ أحَد) إنما عَدَلت ثلث القرآن – على ما جاء في الصحيح – لأجْل هذا الاسْم يعني”الصّمد” الذي لا يُوجد في غيرها من السِّور؛ وكذلك أحد، والله أعلم. وقيل: إنَّ القُرآن أُنزل أثلاثاً: ثلثاً منه أحْكام، وثلثاً منه وَعْدٌ ووعيدٌ، وثلثاً منه أسماءَ وصفات، وقد جمعت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد الأثلاث؛ وهو الأسْماء والصِّفات، فقيل: إنها ثلثُ القرآن، ودلَّ على هذا التأويل؛ ما في”صحيح مسلم”: من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي ﷺ:” إنَّ اللهَ جَزَّأ القُرآنَ ثَلاثةَ أجْزاء، فجعل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) جُزءاً مِنْ أجْزاءِ القُرآن”.
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي