معنى “الحفيظ” ” الحافظ” في اللغة:
قال ابن سيده: الحِفْظُ نَقِيضُ النسيان، وهو التَّعاهد، وقلّة الغَفْلة. قال الجوهري: حفظتُ الشيء حفظاً، أي: حَرَسْته، وحفظته أيضاً بمعنى اسْتَظهرته، والمحافظة: المراقبة.
اسم الله “الحفيظ” و”الحافظ” في القرآن الكريم:
ورد اسمه”الحفيظ” ثلاث مرات:
في قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود: 57).
وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) (الشورى: 6).
وأما”الحافظ” فقد ورد مرة واحدة
في قوله تعالى: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 64).
وورد مرتين بصيغة الجمع
في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
وقوله: (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الأنبياء: 82).
معنى “الحفيظ” و”الحافظ” في حق الله تبارك وتعالى:
قال الخطابي: هو الحافظ، فعيل بمعنى فاعل، كالقدير والعليم، يحفظ السماوات والأرض وما فيها، لتبقى مدة بقائها، فلا تزول ولا تُدْثَر، كقوله عز وجل: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) (البقرة: 255)، وقال: (وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ) (الصافات:7)، أي: حفظناها حفظاً والله أعلم. وهو الذي يحفظ عبده من المهالك والمعاطب، ويقيه مصارع السوء كقوله سبحانه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) (الرعد:11)، أي: بأمره. ويحفظ على الخَلق أعمالهم، ويُحصى عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تُكنُّ صدورهم، ولا تغيب عنه غائبةٌ؛ ولا تَخفى عليه خافية، ويَحفظ أولياءه، فيعصمُهم عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم عن مُكايدةِ الشيطان، ليَسلموا من شره، وفتنته اهـ .
قال القرطبي: فهذا الاسْم يكون من أوصاف الذات، ومن أوصاف الفعل. فإذا كان من أوصاف الذات فيرجع إلى معنى” العليم”، لأنه يحفظ بعلمه جميع المعلومات فلا يغيب عنه شيء منها، كما يقال: فلان يحفظ القرآن، أي: هو حاضر في قلبه، وفي مقابلة هذا الحفظ النسيان، وعلى هذا خرج قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) (مريم: 64). وقوله: (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) (طه: 52). وإذا كان من صفات الفعل، فيرجع إلى حفظه للوجود، وضد هذا الحفظ: الإهْمال، وعلى هذا خرج قوله تعالى: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً) (يوسف: 64). وقال: والحفظ أيضاً قد يكون بمعنى الجَمع والوعي، من ذلك قولهم: حفظت القرآن، أي: جمعته، إذا قرأته عن ظهر قلب، وحفظت المتاع، إذا جمعته في الوعاء، والوعيُ والجمعُ حراسة فاعلم. وقد يكون بمعنى الرقبة، ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) (الشورى: 6). وقد يكون الحفظ بمعنى الأمانة، ومنه قول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، أي: جَموعٌ لما يكون في الخزائن من مظان حقوقها، منوع لها من غير واجبها. وقد يكون بمعنى الإحصاء عدداً وعلماً” اهـ .
وقال السعدي:”الحفيظ”: الذي حَفِظ ما خَلَقه، وأحاطَ علمُه بما أوْجده، وحَفِظ أولياءه من وقوعهم في الذُّنوب والهَلَكات، ولطفَ بهم في الحركات والسَّكنات، وأحْصَى على العباد أعمَالهم وجزاءها.
من آثار الإيمان باسم الله “الحفيظ” و”الحافظ”:
1- إنَّ الحافظ لهذه السماوات السبع؛ والأرضين السبع؛ وما فيهما، هو الله وحده لا شريك له. فهو سبحانه يحفظها من الزوال، فتظلُّ باقيةً بأمره؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء: 32)، أي: كالسَّقْف على البيت، قاله الفرّاء، وهو كقوله: (ويُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (الحج: 65). وقال بعض المفسرين في قوله: (مَّحْفُوظاً) أي: مِنَ الشياطين، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ) (الحجر: 16 – 18).
قال ابن جرير: يقول تعالى ذِكْره: وحفظنا السّماء الدنيا مِنْ كلِّ شيطانٍ لعين، قد رَجَمَه اللهُ ولَعَنه، (إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) يقول: لكنْ قد يَسْترق من الشياطين السّمع؛ مما يحدثُ في السّماء بعضها، فيتبعه شهابٌ من النار مُبِين، يُبيّن أثره فيه؛ إما بإخْباله وإفْسَاده، أوبإحْراقه” اهـ . وقيل: محفوظاً من الهدْم والنقض، وعن أنْ يَبْلغه أحدٌ بحيلة. وقيل: محفوظاً؛ فلا يحتاج إلى عِمَاد. والله يحفظ ذلك كله بلا مشقة ولا كلفة، ودون أدنى تعب أو نصب، كما قال سبحانه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: 255).
2- أن المحفوظ هو ما حفظه الله سبحانه وتعالى وشاء له أن يحفظ ويبقى، وأما من شاء الله سبحانه أن يضيع أو يضمحل ويضعف أو يهلك، فإنّه ضائعٌ هالك لا محالة. فقد تكفل الله بحفظ كتابه العزيز؛ من التَّحريف والتغيير والتبديل، على مرِّ العصور والدهور، قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). فبقى كذلك – كما قال سبحانه – هذه القرون الطويلة محفوظاً بحفظ الله تعالى له، فهو من آيات الله الظاهرة للعيان، الدالة على صِدْق وعد الله جل شأنه. ولقد أتى على المسلمين أيامُ فتنٍ سوداء، انتشر فيها أهلُ البِدَع والأهْواء، وأدخلوا على هذا الدِّين أنواع المحدثات، وافتروا على رسولِ الأمة ﷺ أنواعَ المفتريات، ولكنهم عَجِزوا جميعاً عنْ أنْ يُحْدثوا في هذا القرآن شيئاً، أو أنْ يُغيّروا فيه حَرْفاً واحداً، فبقيَ كما هو، وبقيتْ نُصُوصه كما أنزلها الله على نبيه ﷺ . وكذا أماكن العبادة، فإنَّ المحفوظ منها؛ هو ما حَفِظه الله سبحانه وتعالى، وهو خيرٌ حافظاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن آيات الله العظيمة: وكذلك الكعبة، فإنها بيتٌ من حجارة بوادٍ غير ذي زرعٍ، ليس عندها أحدٌ يحفظها مِنْ عدوٍ، ولا عندها بساتين وأمور يَرْغب الناس فيها، فليس عندها رغبةٌ ولا رَهْبة، ومع هذا فقد حفظها بالهَيبة والعَظَمة، فكلُّ مَنْ يأتيها؛ يأتيها خَاضعاً ذليلاً؛ متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض؛ محبةً وشَوقاً من غير باعثٍ دنيوي، وهي على هذه الحال مِنْ ألوف من السنين، وهذا مما لا يُعْرف في العالم لبَنِيّة غيرها، والملوك يبنون القُصُور العظيمة فتبقى مدّة، ثم تُهدم لا يَرغب أحدٌ في بنائها؛ ولا يَرْهبون مِنْ خرابها. وكذلك ما فَعَل اللهُ بأصحاب الفيل، لمّا قَصدوا تخريبها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) (الفيل: 1 – 5). قَصَدها جيشٌ عظيمٌ ومعهم الفيل، فهربَ أهلُها منهم فبرك الفِيل؛ وامتنعَ من المسير إلى جهتها، وإذا وجَّهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم مِنْ البحر طيرٌ أبابيل، أي: جماعات في تفْرقة، فوجاً بعد فوجٍ، رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآياتُ الأنبياء هي أدلة على صدقهم” اهـ .
3- والله سبحانه وحده، هو الذي يَحْفظ الإنسان مِنَ الشُّرور والآفَات والمهَالك، ويحفظه مِنْ عقابه وعذابه وسَخَطه، إنْ هو حَفِظ حدودَ الله؛ واجتنبَ محارمه، فبتقوى الله وخوفه؛ يُحفظ الإنسان، وبقَدْر ذلك يكون الحِفْظ والكلاءة، قال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) (النساء: 34)، فالآية تدلُّ على ذلك، فلأنّهن صَالحاتٌ قانتاتٌ؛ حَافِظَات لمغِيب أزْواجهن – مِنْ عِرْضٍ ومالٍ وولد – حفظهن الله سبحانه، وأعانهن وسددهن على ذلك. فبحفظهن الله – أي أمره ودينه – حفظهن الله عز وجل. وجاء في الحديث قوله ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما:” يا غلام؛ إني مُعلّمك كلمات: احْفظ اللهَ يَحْفظك، احْفظ اللهَ؛ تَجده تُجاهك…” . قال ابن رجب رحمه الله: يعني احْفَظ حدود الله، وحُقُوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حُدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به؛ إلى ما نهى عنه، فدخل في ذلك فعلُ الواجبات جميعاً، وترك المحرمات جميعاً” اهـ . وقد مدح الله سبحانه عباده الذين يحفظون حقوقه وحدوده، فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين المتقين، الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ بأن لهم الجنة (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112). وقال: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) (ق: 32 – 33).
4- ومَنْ أعظم ما يجب على المسلم حفظه من حقوق الله، هو التوحيد، أنْ يعبده ولا يشرك به شيئاً، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: إذ قال له رسول الله ﷺ:”يا معاذ بن جبل! قلت: لبيكَ رسولَ الله وسعديك، قال: فإنّ حقَّ اللهِ على العباد أنْ يَعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعةً؛ ثم قال: يا معاذُ بن جبل! قلت: لبيكَ رسول الله وسَعْديك، قال: هل تدري ما حقّ العباد على الله؛ إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال:” أنْ لا يُعَذّبهم” . فهذا هو الحقُّ العظيم، الذي أمر الله سبحانه عباده أنْ يَحفظوه ويُراعوه، وهو الذي مِنْ أجل حفظه وصيانته، أرسلَ الرسل؛ وأنزل الكتب. فمَن حَفِظه في الدنيا، حفظه الله تعالى مِنْ عذابه يوم القيامة، وسلَّمه وأمَّنه منه، وكان له عند الله عهدٌ أنْ يُدخله الجنة، ويجيره من النار. وإن عذب بسبب ذنوبه، فإنه أيضاً محفوظ بتوحيده من الخلود في نار جهنم، مع الكفار والمشركين الذين ضيَّعوا هذا الحق العظيم.
5- ومن أعظم ما أمر بحفظه من الواجبات: الصلاة، قال تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى) (البقرة: 238). وقال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المؤمنون: 9، والمعارج: 34). فمن حافظ على الصلوات وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه؛ وكانت له نجاة يوم القيامة. قال ابن القيم رحمه الله: والصلاة مَجْلبةٌ للرزق، حافظةٌ للصحة، دافعةٌ للأذى، مطردة للأدواء، مقوّية للقلب، مُبيّضة للوجه، مفرحةٌ للنفس، مذهبةٌ للكسل، منشطةٌ للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذيةٌ للروح، منوِّرةٌ للقلب، حافظةٌ للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن. قال: وبالجملة: فلها تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ صحة البدن والقلب وقِواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلى رجلان بعاهةٍ أو داءٍ أو محنةٍ أو بليةٍ، إلا كان حظُّ المصلى منهما أقل، وعاقبته أسلم. وللصلاة تأثيرٌ عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعْطيت حقّها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة. وسِرُّ ذلك: أنَّ الصلاة صلةٌ بالله عزّ وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل؛ تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه موارد التوفيق من ربّه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرَّات، كلها مُحضرةٌ لديه، ومسارعةٌ إليه اهـ . ومما جاء في أن الصلاة تحفظ صاحبها: قوله ﷺ عن الله عزَّ وجل أنَّه قال:”يا ابن آدم ! اركعْ لي منْ أولِ النّهار أربع ركعاتٍ، أكْفِك آخره” . وقيل: إنّ الصلاة تحفظ صاحبها؛ الحفظ الذي نبَّه عليه؛ في قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45) . وأما من ضيّع الصلاة؛ فقد توعّده الله سبحانه بالهلاك؛ والشر العظيم. قال سبحانه: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم: 59).
6- ومما أمر الله بحفظه: السّمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36). فاحفظْ سمعك، فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظْ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أنْ يتعلّقا بما يغضبه ويسخطه، وينْشغلا بغيره.
7- ومما أمر سبحانه وتعالى بحفظه الفروج، قال سبحانه: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور: 30). ومدح المؤمنين بذلك فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون: 5- 6). وقال ﷺ:” منْ يضْمنْ لي ما بين لَحْييه ورجليه، أضْمنُ له الجنة” .
8- ومما أمر الله بحفظه الأيمان، فقال: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: 89)، لأنّ حفظ اليمين؛ يدل على إيمان المرء وورعه، فكثيرٌ من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهولا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه، واستقصاء هذا يطول. وبالجملة فالمؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته، بل هو مطيع لربه على أي حال، وفي كل زمان ومكان. وكلما كان وفاءه بحفظ حدود الله وشرائعه أعظـم، كان حفـظ الله له كذلك، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: 40). وقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة: 152). وقال:(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) (محمد:7). قال ابن رجب رحمه الله: وحفظ الله سبحانه يتضمن نوعين: أحدهما حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وماله. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكنْ رسول الله ﷺ يدعْ هؤلاء الدعوات؛ حين يُمسي وحين يُصبح:” اللهم إني أسْألكَ العَافية في الدُّنيا والآخرة، اللهمَّ إني أسْألُك العَفْوَ والعافية؛ في دِيني ودُنياي؛ وأهْلي ومالي، اللهمَّ اسْتر عَوْراتي؛ وآمنْ رَوْعاتي، اللهمّ احْفَظني منْ بين يدي ومِنْ خلفي، وعنْ يميني وعن شمالي؛ ومَنْ فوقي، وأعُوذُ بعظمتك أنْ أُغْتالَ مِنْ تحتي”. قال: ودعا رجلٌ لبعض السلف بأنْ يحفظه الله، فقال له: يا أخي لا تَسأل عن حفظه؛ ولكن قلْ يحفظ الإيمان. يعني أنّ المهم هو الدعاء بحفظ الدِّين، فإنّ الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله تعالى يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يفسده عليه؛ بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون يكرهه. وهذا كما حفظ نبيه يوسف عليه السلام؛ قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 24). فمن أخلص لله؛ خلَّصه من السوء والفحشاء؛ وعصمه منهما مِنْ حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. قال: وفي الجملة فيمن حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه ولي المؤمنين، وأنه يتولّى الصالحين، وذلك يتضمن أنه يتولى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولا يكلهم إلى غيره، قال تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) (البقرة: 257). وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 11) وقال: (ومّن يتوكلً على اللَهٌ فهٍو حسبٍه ٍ) (الطلاق: 3). وقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: 36).
9- الله سبحانه يحفظ أعْمال عباده؛ فلا يضيع شيءٌ منها؛ ولا يخفى عليه، صغيراً كان أو كبيرا، ويوافيهم بها يوم الحساب إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، ولا يَنسى الله منها شيئاً؛ وإن نسيه الناس، قال تعالى: (أحصاه اللَّه ونسوه) (المجادلة: 6)، وقال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً) (النبأ: 29). وقد وكَّل الله بذلك حفظة كراماً من الملائكة. قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 10 -12). وقال: (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطارق: 4)، وغيرها. ولا يسقط من هذه الصحف شيء ولو صَغُر، قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49). وقال: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر: 52- 53).
10- وهذا الأمر ليس من مهام الرسل، ولا أتباع الرسل، بل هو لله وحده، كما قال سبحانه في ذلك: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) (الأنعام: 104). وقال عن شعيب عليه السلام في خطابه لقومه: (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) (هود: 86). وقال تعالى: (وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء: 80)، وغيرها.
11- يجوز إطلاق هذا الاسم على الخَلق، فقد جاء ذلك في قوله تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (ق: 32). وقال يوسف عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.