أجاز الإسلام حبس المتهم من أجل التحقيق حتى يأخذ العدل طريقه في المجتمع ، مع ملاحظة عدم جواز التباطؤ في التحقيق حتى لا يترتب على ذلك بقاء المتهم في الحبس ظلماً دون حاجة إلى ذلك ،فإذا حدث هذا وترتب عليه زيادة مدة الحبس على المظلوم فإن له الحق في أن يطالب بالتعويض للضرر المادي والأدبي الذي لحقه ، وذلك في حال ظهور براءته.

حكم الحبس لحين التحقق من التهمة وحق تعويض السجين من الضرر:

يقول أ. د·حسن عبد الغني أبوغدة أستاذ الفقه المشارك جامعة الملك سعود ـ الرياض [بتصرف].

الحبس بتهمة أمر مقرر في الشرائع والأنظمة القديمة والحديثة، وهو ما تدعو إليه الحاجة حال تعيّنه للكشف عن الحقيقة موضوع الدعوى وإيصالها لأصحابها، ولمنع المتهم من الاستحواذ على حقوق غيره والفرار بها بعيداً عن هيمنة العدالة·

وقد أجاز الإسلام حبس المتهم، واعتبره من السياسة العادلة والتصرف الحكيم،وذلك إذا تأيدت التهمة بقرينة قوية أو ظهرت علامات الشك والريبة على المتهم، أو كانت له سوابق في الانحراف والجريمة·· مع ملاحظة عدم جواز التباطؤ في التحقيق حتى لا يترتب على ذلك بقاء المتهم في الحبس ظلماً دون حاجة إلى ذلك·

وعلى الدولة معاقبة أو تضمين من يتسبب في حبس المتهم، أو يتأخر في الإفراج عنه بغير قرينة مقبولة أو موجب شرعي، وكذا تعويض المتهم عن الأضرار الواقعة عليه في مدة حبسه، وخصوصاً إذا تجاوزت الحد اللازم المشروع عرفاً للكشف عنه واستبراء حاله بحسب ما سبق بيانه·

هذا، ومما يمكن اعتماده دليلاً مؤنساً لما نحن بصدده ما رواه عبد الرزاق في “المصنف” وأبو عبيد في “الأموال”، وابن حزم في “المحلى” وغيرهم: أن رجلين من قبيلة غفار نزلا بمياه حول المدينة، وعليها ناس من قبيلة غطفان معهم ظهر “إبل” لهم، فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين بهما، فأقبلوا إلى رسول الله وذكروا أمرهم فحبس أحد الغفاريين، وقال للآخر: اذهب فالتمس “البعيرين” فذهب وعاد بهما، فقال النبي  للمحبوس: استغفر لي، فقال: غفر الله لك يا رسول الله، فقال النبي: ولك، وقتلك في سبيله، قال الراوي: فقتل يوم اليمامة·

ووجه الدلالة: أن الرجل حبس بتهمة ثم ظهرت براءته، فأطلقه النبي وعوَّضه بدعائه له بالشهادة في سبيل الله، وأعظم بهذا الدعاء النبوي وبهذه الشهادة ذات المكانة العظيمة عند الله تعالى، قال تعالى: (ولاَتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ···) آل عمران: 169·

وقائع أخرى تؤكد مبدأ التعويض عن الضرر:

مما يمكن اعتباره منسجماً مع هذا المبدأ: ما رواه النسائي أن رسول الله كان يقسم شيئاً بين أصحابه، فأقبل رجل وأكبَّ عليه، فطعنه النبي بعرجون “عود” كان معه فجرحه، فقال: تعال فاستقد “اقتص”، قال: بل عفوت يا رسول الله·

ومن هذا القبيل أن عمر ـ رضي الله عنه ـ نهى عن طواف الرجال مع النساء ثم رأى رجلاً يفعله فضربه بالدرة، ولما علم أن نهيه لم يبلغه عزم عليه أن يقتصّ منه أو يعفو عنه، ومن المنقول عنه قوله: “رأيت النبي يقصّ من نفسه” رواه النسائي·

هل التعويض يشمل الأضرار المادية والمعنوية:

قد يتبادر إلى الذهن أن التعويض عن الأضرار المادية يسلّم به في ضوء النصوص السابقة، بخلاف التعويض عمَّا يعرف بالأضرار المعنوية أو الأدبية؟·

والجواب على هذا: أن استسماح النبي المحبوس من الغفاريين ـ في القصة الآنفةـ يصلح في التعويض عن الأضرار المعنوية، ويضاف إليه ما يلي:

1 ـ ما رواه أحمد والحاكم وابن ماجه وغيرهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”، ومن المعلوم أن الضرر يكون مادياً ومعنوياً،وقد يكون المعنوي أفظع وأشد من المادي، قال الشاعر:

جراحات السنان لها التئام ……….ولا يلتئم ما جرح اللسان

2 ـ من المقرر عند علماء المسلمين: وجوب إزالة الضرر شرعاً،وذلك اعتماداً على القاعدة الفقهية المتفق عليها: “الضرر يزال”· وإزالة الضرر تكون بإزالة آثاره وتداعياته·

3 ـ ذكر المالكية: أن من سجن غيره بقصد تفويت منفعة عليه يضمن ذلك، ويعلم قصده بقوله أو بالقرينة·

4 ـ نص الحنابلة على أن من غصب حراً وحبسه فعليه أجرته·

ولا يخفى أن الحبس من العقوبات البليغة، وقد قرنه الله تعالى بالعذاب الأليم، وقد عدَّ النبي يوسف ـ عليه السلام ـ خروجه منه إحساناً عظيماً أكرمه الله تعالى به، جاء في القرآن الكريم: ( قاَلَتْ مَاجَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يوسف:25، وفيه أيضاً: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السَّجْنِ) يوسف:100·

هل يغني عقاب المتسبب عن تعويض السجين المتضرر؟

إن إنزال العقاب بالجهة المقصرة في هذا الصدد لا يغني المحبوس المتضرر شيئاً، وإنما يغنيه رد الاعتبار الأدبي إليه، وتعويضه عن الأضرار المادية والنفسية والاجتماعية التي لحقت به ونزلت بأسرته·

إن قواعد العدالة تقتضي إسناد جميع المسؤوليات إلى أصحابها ومحاسبة المتهاونين والمتسببين بالأضرار، كما تقتضي التعويض عن الأضرار أياً كانت: مادية أو معنوية، وخصوصاً أن عصرنا الحالي يشهد نمواً مطرداً في مفاهيم حقوق الإنسان، وهي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام وتوجيهاته في كثير من صورها ومجالاتها، ومنها الحقوق المعنوية والأدبية·

وهكذا يتضح مما سبق:

أن الحبس بتهمة أمر مقرر في الشرائع والأنظمة عامة، وذلك لمحاصرة الجريمة والكشف عن الفاعلين والوصول إلى الحقيقة، غير أنه من الأهمية بمكان التعجيل في التحقيق مع المتهمين وعدم التمادي في حبسهم من غير قرينة قوية مقبولة ولا موجب مشروع·

فإذا تجاوزت جهة ما تلك المسلمات الإجرائية، فأطالت حبس المتهم من غير مسوّغ، توجب عليها أن تعوضه عما لحقه من أضرار مادية ومعنوية، وتساءل الأشخاص الذين باشروا هذه التجاوزات وتنزل بهم الجزاءات المناسبة، وبذلك يمكن ضمان ورعاية حرية كل إنسان وأمنه الفردي، وهذا في مجمله يلتقي مع تعاليم الشريعة الإسلامية والاتجاهات القانونية المعاصرة·