ليس هناك تعارض بين القرآن والسنة، فالسنة مكملة ومفسرة للقرآن وكلاهما وحي من عند الله، ولكن من أراد أن يفهم القرآن والسنة فلا بد أن يكون له رصيد من الحكمة القرآنية، وله ذوق أدبي، وعلى دراية بأغوار النفس الإنسانية وأحوال المجتمعات البشرية ودراسة عميقة للسنة المطهرة، ولا يكفي في ذلك مطالعة كتاب أو حفظ بعض الأحاديث.

هل يقع التعارض بين السنة مع القرآن

يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله-:

لا يتعارض حديث مع كتاب الله أبدًا! وما يبدو حينًا من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع، وذلك مثل حديثِ “لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله” وقولِه تعالى: (ادخلوا الجنةَ بما كنتم تعملون) النحل آية: 32
الفهم الصحيح للموضوع كله أنه لا بد من عمل يَنال به المرءُ رضا ربه ويستحق رحمته، فالجنة ليست للكُسالى والأراذل، بيد أن العمل المقبول هو المقرون بالتواضع لله، وإنكار الذات، والقلق من أن يرفض رب العالمين العملَ المتقرَّب به؛ لأن عيوبه لا تَخفَى عليه، أو لأنه دون حقه، أو لأي سبب آخر.

فمَن تقدم بعمل وهو شامخ الأنف، ليس في حسابه إلا أنه قدَّم العمل المطلوب للجنة، وعلى الله أن يسلم له المفاتيح ليدخلها بعد ما امتلكها بعمله! هذا المغرور لا يقبل منه شيء، ولا مكان له في الجنة.
أما من جاء خاشعًا خفيض الجناح، شاعرًا بالانكسار لأنه لم يقدم ما اللهُ أهلٌ له، فإنه يدخل الجنة بعمله، والدلائل على هذا المعنى كثيرة، وما يعقلها إلا العالِمون!

إن السنة بحر متلاطم الأمواج، وما يستطيع فهمها على وجهها إلا فقيهٌ يدرك ملابسات كل قول والمراد الحق منه! فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ظل يكلم الناس ثلاثًا وعشرين سنة، اختلفت فيها الأحوال وتباين الأفراد وتشعبت القضايا.
ووضعُ كل حديث بإزاء المقصود منه أو معرفةُ النطاق الذي يصح فيه هو عملُ الفقهاء، وهو عمل لا مَناصَ منه وإلا حرَّفنا الكلم عن مواضعه!

والمحزِن أن ناسًا لا فقه لهم تكلفوا ما لا يُحسنون؛ من قراءة للسنة وإفتاء بها، فأساءوا ولم يحسنوا، وهم الآن حَجَر عَثرة في طريق الدعوة الإسلامية!
بعضهم فهم أن الإسلام يشن حرب العدوان ويأخذ الناس على غِرَّة دون دعوة إلى دين!
وبعضهم فهم أن مستقبل الأمة إلى ضياع لأنه لا يجيء يوم إلا والذي يليه شر منه!
وبعضهم فهم أن الغنى مضاد للتقوى، وأن الفقر أخو اليقين وطريق الآخرة!
وبعضهم فهم أن القَدَر تحويل قَسري للمرء من طريق النجاة إلى طريق الهلاك أو العكس، لأن العلم الإلهي سبق بذلك!

وسبب هذا الخبط اشتغالُهم بالسنَّة دون أن يكون لديهم رصيد من الحكمة القرآنية، ودون أن يكون لديهم ذوق أدبي بأساليب الأدب العربي، ودون أن يكون لديهم بصر بأغوار النفس الإنسانية وأحوال المجتمعات البشرية، ودون دراسة عميقة للسيرة الشريفة وما حَفَل به ربع قرن من أحداث جسام وشئون وشجون! ودون تفريق بين ما هو عادي وما هو عبادي.

هل السنة مفسرة للقرآن

والذي أراه أن السنة ركن الإسلام بعد القرآن الكريم، ولكن لا يشتغل بتفاصيلها إلا الفقهاء ومن يعنيهم الأمر من الولاة والقضاء والدعاة والمتخصصين في أي مجال يحتاج إلى الإلمام بهذه التفاصيل، أما رجل الشارع أو الشخص العادي فإن أربعين حديثًا تكفيه وتُغنيه.
وعلى أية حال ما يجوز لجاهل القرآن أن يُحدِّث الناس أو يتصدر للفتوى في شئونهم!

نحن نستمد معاقد الإيمان وأركان الإسلام وأعمدة الأخلاق والمعاملات من الكتاب والسنة معًا، والسنة العملية التي وردت بطريق القطع تفسير مستيقَن للقرآن نفسه، وعلى ضوء هذا نصلي الخمس، ونحج البيت، ونعرف الكيفيات لهذه الفروض من السنة العملية، وهناك أحكام كثيرة في الفروع أجمع عليها الفقهاء، ولا يخرج على هذا الإجماع مؤمن.

أما ما كان موضع خلاف، فالأمر فيه على الاتساع، يعتنق أي مسلم ما شاء من وجهات النظر العلمية دون حرج.

ما علاقة القرآن بالسنة

قال الفقهاء: والسنة المشهورة تخصص عموم القرآن، فالأولاد مثلًا يَرِثون أباهم بنص الآية (يوصِيكم اللهُ في أولادِكم للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيَين..) النساء آية: 11
وقد جاءت السنة بأن القاتل لا يرث أباه الذي قتله، كما جاءت السنة بأن الكافر لا يرث أباه المؤمن.
وقد تقيِّد السنة نصًّا جاء في القرآن الكريم مطلقًا، فالآية تجعل الأم من الرَّضاع محرَّمة كالأم نفسها، وكذلك الأخوات، قال تعالى: (… وأمهاتُكم اللاتي أَرضَعنَكم وأخواتُكم من الرَّضاعة) النساء آية: 23
وجاء في السنة أن ذلك ليس على إطلاقه، فلا تحرِّم رضعةٌ ولا رضعتان، ويرى عدد من الأئمة أن أقل من خمس رضعات لا يفيد التحريم، وبَقيَ أبو حنيفة ومالك على القول بالتحريم المطلق!
والذي أميل إليه أن الأمومة لا تتكون من رضاع كثير، فإذا ورد في السنة أن الحد الأدنى لذلك خمس رضعات أو عشر كما يرى البعض فهو قيد جدير بالرعاية!
وقال تعالى: (ولكم في القِصاصِ حياةٌ) البقرة آية :179 ولكن السنة بينت أنه لا يُقتَصُّ للفرع من الأصل؛ فإذا قتَل أبٌ ابنَه عوقب بغير القتل! والسبب أن هذا القتل شذوذ عن سَنَن الآباء الذين قد يَفتَدون أبناءهم بحياتهم، ويَحيَونَ كادحين ليوفروا لهم السعادة!
لابد أن هذا القتل لا تَصحَبه نية الإجرام، وأنه وقع تحت ضغط جنوني طارئ!
ويرى مالك أنه لا قصاص إلا إذا كشفت التحقيقات أن الأب رجل متوحش مجرد من مشاعر الحُنُوّ، فكَّر ودبَّر لغرض خسيس! ويرى غيره إلغاء القصاص مطلقًا إمضاء للسنة!
وهذا التخصيص أو التقييد هو تفسير ممن تلقّى الوحي للمراد الإلهي، ومن أحقُّ من نبي القرآن بتفسيره! ولا يسمَّى معارضةً للقرآن الكريم، بل هو بيان وتوضيح.

هل السنة تستقل عن القرآن

وتستقل السنة بإنشاء أحكام إلى جوار ما شُرع في القرآن، وأي ضير في هذا!
قالوا: مثل المسح على الخفين بدل شريعة الغسل! ومثل تحريم الذهب والحرير على الرجال.. الخ
والتحقيق أن تشريعات السنة كلها داخلة في نطاق القرآن الكريم ودلالاته القريبة والبعيدة، وعندي أن المسح على الخفين ليس من إنشاء السنة بل هو معنى القراءة الثابتة (فامسَحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) بكسر اللام عطفًا على ما قبلها، والتعبير مجازي كما يقول علماء البلاغة، أطلق الحال وأراد المحل!

أما تحريم الذهب والفضة فسدًّا لأبواب الترف!
وأظن ما ورد من تحريم استعمال الجرس فلحماية شعيرة الأذان، وإلا فلا مانع من استعمال الجرس للإنذار أو في الساعات المنبهة، أو في الهاتف أو في أعناق الدواب مثلًا.

ولفقهاء الحنفية كلام في هذا الموضوع أُورِده هنا لأني ميال إليه، إنهم يرون أن الفرض والمحرَّم لابد في إثباتها من نص قاطع، ومعنى هذا أن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فرضية. ويعني هذا أن الأحكام الشرعية تزيد اثنين فوق ما قرره الأئمة الآخرون!

الأئمة يقولون: الواجب ما يُثاب على فعله ويُعاقَب على تركه. والمحرم بالعكس ما يُعاقَب على فعله ويُثاب على تركه. والمندوب ما يُثاب على فعله ولا يُعاقَب على تركه. والمكروه ما يُثاب على تركه ولا يُعاقَب على فعله. والمباح ما استوى فيه طرفا الفعل والترك.

ويرى فقهاء الحنفية أن ما أمَر به حديثُ آحادٍ لا يرتفع إلى درجة الفرض، ويسمَّى لديهم واجبًا يُؤمَر بفعله ويلام على تركه. وما نهَى عنه حديثُ آحادٍ لا يرتفع إلى درجة المحرَّم بل يؤمر بتركه ويلام على فعله، ويأخذ حكم الكراهة التحريمية. وهم يطلقون هذا الحكم على ما انفردت السنة بحظره كلبس الحرير والذهب للرجال مثلًا.
لا فريضة عندهم إلا بنص قطعي ولا تحريم إلا بنص قطعي. وأخبار الآحاد عند الجمهور لا تفيد إلا الظن العلمي. وشذ بعض الحنابلة فروَى عن إمامه أنها تفيد القطع، وهذا فهم مردود!