الغيب لله وحده، لا يعلمه إنس ولا جن ، وما يخبر به الجن من يتعاملون معه إنما هو مما غاب عن الحاضرين مما قد وقع بالفعل ، وما وقع وحدث لا يسمى غيبا ، وإنما يسمى إخبارا بما حدث ويجهله الآخرون،أما الغيب المستقبلي فلا يعلمه إلا الله تعالى .
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد هذا المعنى ، كقوله تعالى :” فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ”، وقال تعالى :” وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ “، وقال سبحانه :” وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ “، بل إن النبي ﷺ لم يكن يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى ، وحكى الله تعالى على لسان رسوله في القرآن على هذا المعنى ، فقال:” قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”، وقال سبحانه :” وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَأَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.
يقول الشيخ ابن العثيمين -رحمه الله :
الجن لا يعلمون الغيب ، ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله . واقرأ قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) .
ومن ادعى علم الغيب فهو كافر ، ومن صدَّق من يدَّعي علم الغيب فإنه كافر أيضاً لقوله تعالى : ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ). فلا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله وحده .
وهؤلاء الذين يدعون أنهم يعلمون الغيب في المستقبل كل هذا من الكهانة ، وقد ثبت عن النبي ﷺ : (أن من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ). فإن صدَّقه فإنه يكون كافراً ، لأنه إذا صدَّقه بعلم الغيب فقد كذَّب قوله تعالى : (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) .أ.هـ
ويقول الشيخ عطية صقر – رحمه الله تعالى – في علم الغيب :
والغَيْبُ ما قابَلَ الشَّهادة، أيْ ما يُغيب على الإنسان العِلْمُ به، ومنه ما يُمكن التوصُّلُ إليه بالوسائل المختلفة، كالمَسْروق يُعرَف بالبَحث عنه، والمجهول يُعرَف بالتعلُّم، كالكهرباء والفيروسات وما إليها، ومنه ما لا يُمكِن التوصُّل إلى معرفتِه بالوسائل العاديَّة بل لابد فيه من خَبَرٍ صادِقٍ، كأحوال الآخرة، التي يَجِبُ أنْ نُؤمِنَ بها لوُرُودها في القرآن والسنة.
ومِنَ الغَيْبِ قِيامُ الساعَةِ وما ذُكِرَ في مَفاتِح الغَيب، وقد يُعْرَف شيءٌ منها بإِطْلاعِ الله ـ سبحانه ـ عليها مَن يَرتَضِيه من الرُّسُل، كما نَصَّتْ على ذلك الآيةُ.
والإيمان باختصاص الله بعلم مفاتح الغَيب واجب بدليل الحَصْر في قوله: (لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ) . ومَنِ ادَّعَى عدم اختصاصه بذلك كَفَر؛ لأنه كَذَّب القرآن الكريم الصريح في الدّلالة عليه، ومَن حاولَ معرفة هذه المفاتح لِيُشارِكَ اللهَ فيها كَفَرَ أيضًا، أمّا مَن يَحُومُ حوْلَها مؤمِنًا بأنه لن يَصِلَ إلى العلم اليقينيِّ بها فلا يَكْفُرُ، ومعلوماته التي يَصِل إليها من وراء هذه المحاولة معلومات ظَنِّيَّة لا يَقِينيَّة، والفَرْق بين علْم الله ـ تعالى ـ ومَعارف البشَر يَتركَّز في نقطتين أساسيتين، أولاهما: أنَّ علْم الله عن أيِّ شيء شامِل لجميع ما يَتصِل بهذا الشيء، والثانية أنَّ علْمه ـ سبحانه ـ يَقينيٌّ لا ظَنِّيٌ. أما علم غيره من البشر فلن يَجمَع الأمْرين معًا، لا في الكَمِّ ولا في الكَيْف، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتِمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً) (سورة الإسراء : 85) وقال: (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا) (سورة النجم : 28) . ولَئنْ حَصَلَ علمٌ بشيء عن شيء فهو علْم قاصِر.
وقد حاول الإنسان أنْ يَبحَث عن المجهول المستقبل منذ خُلِقَ ،وفيه غرِيزةُ حُبِّ الاستطلاع، وبَذَل في ذلك جهودًا كبيرة، واتَّخَذ وسائلَ متعددة، وكان مِن هذه الوسائل ما عُرِف باسم الكَهانة والتنجِيم والعِرَافَة والطِّيَرَة والطَّرْق وضَرْب الرَّمْل وقِراءة الفِنجان وقِياس الأثَر وما يُبتكر غير ذلك.
وفيما يَلِي تعريفٌ بكلٍّ منها:
1 ـ الكَهَانَة : هي ادِّعاء علْم الغَيب، بالإخبار عن المُضْمرات، أو عن المُغَيَّبات في مستقبل الزمان بأيَّة وسيلة من الوسائل، وقد تَختصُّ بما كان فيه اتصالٌ بالجنِّ .
2 ـ التَّنْجِيم : هو الاستدلال بالنجوم في مواقِعها وتَحرُّكاتها على ما سَيكُون في المستقبل من مَطَرٍ أو حَرٍّ أو بَرْدٍ أو مَرَضٍ أو مَوْتٍ وغَيْرِ ذلك ، وقيل: هو الكهانة .
3 ـ العِرَافَة: هي ادِّعاءُ معرفة الأمور بمُقدّماتٍ وأسبابٍ يُسْتدَلُّ بها على مواقِعها، كالمَسروق مَنِ الذي سَرَقَه، والضّالَّة أين مكانُها، وقيل: هي السحر .
4ـ الطِّيَرَة: بكسْر الطاء وفتْح الياء ـ وقد تُسَكَّنُ ـ وهي مَصْدَرُ تَطيَّرَ، مِثْل تَخَيَّرَ خِيَرَةً، ولم يَجِئْ مِنَ المَصادر هكذا غيْرُهما ـ ومَعناها التشاؤمُ بالشيءِ، أو الاستدلال مِن طَيَرانِ الطائر، أو مِن رُؤية شيءٍ أو سَمَاع صَوْتٍ على ما سيَحصُل للإنسان. وقد كان العَرَب يَزجُرون الطَّيْر من أماكنها. فإن طارَتْ يَمينًا استَبشرتْ، وإن طارَتْ شِمالاً تَشاءمتْ، ويقال لها أيضًا “العِيافَة” مِن عافَ عَيْفًا، وسَيَجِيءُ حديثٌ عن الفَرْق بين الطِّيَرَة والفَأْل.
5 ـ الطَّرْق: وهو الضرب بالحَصا أو بالوَدَع، وقيل: هو الطِّيَرَة وقيل: ضرْب الرمْل.
6 ـ ضرْب الرَّمْل: وهو وضْع خُطوط وعلامات على الرمل، لمعرفة ما يُخبَّأ للإنسان ويُعرَف أيضًا بالخَطِّ ، رَوَى مسلم أنَّ النبي ـ ﷺ ـ سُئل عنه فقال: “كان نبيٌّ من الأنبياء يَخُطُّ، فمن وافَق خَطَّه فذاك” وكذَّب ابن القيم نِسْبة الخَطِّ إلى إدريس ـ عليه السلام ـ وجاء في تفسيره: إن “الحازِي” أي المُحترف لذلك يأتِيه الرجل ليَعرِف حَظَّه، فيَخُط على أرضٍ رِخْوة خطوطًا كثيرة بالعَجَلة، ومعه غلام، ثم يَمْحو منها على مَهَل خَطَّيْن خَطَّيْن، والغلام يقول: ابنَيْ عَيَان، أَسرِعا البَيان، فإن بَقِىَ خَطّان فهما علامة النجاح، وإن بَقِىَ خَطٌّ واحد فهو علامة الخَيْبة. ويقول ابن الأثير في “النهاية” : إنه علم معروف فيه تصانيف، ويُعمل به الآن، ولهم فيه اصطلاحات، يَستخرجون به الضمير وغيره، وكثيرًا ما يُصيبون فيه (هكذا يقول).
7ـ قراءة الفِنْجانِ: وهي الاستدلال بآثار القَهْوة على الفنجان على ما يُفكِّر فيه شارِبُه، ويَزعُم بعض المعاصرين أنَّ أثَر الزفير على القهوة يُعطِي مؤشِّرات صادقة، لكن إذا كان ذلك من الناحية الطبية أو العضوية، فهل تُمكِن معرفة المستقبل؟ فيه كلام.
8 ـ قِياس الأثَرِ: وهو أخْذ قطعة من ثياب الإنسان أو مُتعلَّقاته، وقياسُها بالشِّبْر والأصابع، والاستدلال بذلك على ما يكُون لصاحبه.
وهذه الأشياء وأمثالها نَهَى الإسلام عنها؛ لأنها تَتنافَى مع اختصاص علْم الله بالغَيب، يقول النبي ـ ﷺ ـ: “ليس منَّا مَن تَطيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومَن أَتَى كاهِنًا فصَدَّقه بما يقول، فقد كَفَر بما أُنزل على محمد”. ، ويقول: “مَن أَتَى كاهِنًا فصَدَّقه بما يقول فقد بَرِئ ممّا أنْزَله الله على محمد، ومَن أتاه غير مُصدِّق له لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة”، ويقول: “مَن أَتَى عَرَّافًا فسَأله عن شيء فصَدَّقه لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا”. ويقول: “مَن أتَى عرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّق بما يقول فقد كَفَرَ بما أُنزِل على محمد”، ،ويقول: “مَنِ اقتَبس علْمًا من النجوم اقْتَبس شُعبة من السحر زاد ما زاد”، ويقول: “العِيَافة والطَّيْر والطَّرْق من الجِبْتِ. والجبت ما عُبِدَ من دون الله.
وقد ذكر الله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم أن الجن لا يَعلَمون الغَيب، فكيف يُصدِّقها مَن يَعتمد على أخبارها؟ قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْه المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أن لَّو كَانُوا يَعْلَمُون الغَيْبِ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ) (سورة سبأ : 14). والاتصال بالجن مُمكِن، وكذلك استخدامهم في بعض الأغراض، فقد سخَّرَهم الله لسليمان كَمُعْجزة، فلا مانع من تسخيرهم لغيره، ولم يَرِد نصٌّ يَمنع ذلك، وقد حَدَث لبعض الناس بطُرُقٍ يَعرِفونها، ووضَّح ذلك المُحَدِّث الشِّبْلي في كتابه “آكام المَرْجان”.
يَتبيَّن من هذه النصوص: أنَّ الاعتقاد بأن غير الله يَعلم الغَيب علمًا يقينيًا شاملاً كَفَرَ بما جاء في القرآن الكريم خاصًّا بذلك، ومَن مارَس هذه الأعمال يَنسحب حُكْمه على مَن يلجأون إليه لمعرفة الغيب، فمَن صدَّقه فقد كَفَرَ، ومَن لم يُصدِّقه فقد ارتَكَب إثمًا عظيمًا يُنْقِصُ مِن إيمانه، ولا يَقبل الله صلاته أربعين يومًا.
رَوَى الشيْخان أنَّ ناسًا سألوا النبي ـ ﷺ ـ عن الكاهن أو الكُهّان فقال: “ليسوا بشيء” فقالوا: يا رسول الله ،إنهم ليُحدِّثوننا أحيانًا بشيء أو بالشيء فيكُون حقًّا.فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: “تلك الكلمة من الوَحْي يَخطِفها الجِنِّيُّ فيُقِرُّهاـ أي يُلقِيها ـ في أُذُنِ وَلِيِّه، فيَخْلِطُ معها مائة كذبة”، وجاء في البخاري “إن الملائكة تَنزل في العَنان، وهو السَّحَاب، فتَذكُر الأمْر قُضِى في السماء، فيَسْتَرِقُ الشيطان فيَسمَعه، فيُوجِّه إلى الكُهَّان فيَكْذِبون معها مائة كذبة مِن عند أنفسهم”.
هذا وقد أُبْدلْنا بهذه الأمور وسيلة، يُمكن بها أن تَطمئن لما تُقْدم عليه من عمل، وهي صلاة الاستخارة مع دعائها المعروف الذي جاء به الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، ولْنسمَع قول الله تعالى: (ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْه مَسْئُولا) (سورة الإسراء : 36).