يذهب العقلاء إلى أن الواقعية هو أن يدرك الإنسان الواقع كما هو كائن لا كما يحب أن يكون ، ومن مقتضيات ذلك أن يوازن بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار ، والمكاسب والخسائر، فإذا لم يستطع أن يجنب نفسه المفاسد كلها ولا المضار كلها ولا الخسائر كلها، وحوصر بين هذه المضار فإنه يقبل أهونها وأقلها ليدفع عن نفسه أعظمها وشرها، ولذلك أثر عن سلفنا قولهم : ” ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين”
وحالة كثير من الناس إحدى تطبيقات هذا المسلك الفكري، فإنهم لا ينظرون إلى الخاطب نظرة فاحصة بملء العينين؛ ولكنهم ينظرون إليه بعين واحدة، وينظرون بالعين الأخرى إلى عمر الفتاة الذي انقضى منه ما انقضى، وقد يناهز مرحلة العنوسة!
وهذا المسلك مقبول في الجملة، بل إنه معدود في جملة الفقه الدقيق، والفكر الثاقب، ولكن بإزاء هذا الفقه فقه آخر مكمل له، وهو أن ليس لنا أن نتهاون بحقوق الله من أجل حظوظ النفس، فحق الله على المسلم أن يكون مطيعا لله مستقيما على طاعته، فلا يدع الصلاة والصيام ، ولا يأتي الخمر ولا الفواحش،وحق الله على المسلمة أن تطيع أمره، وقد أمر الله كل مسلم ومسلمة أن لا يتزوجوا إلا من أقام حق الله، وبهذا أمر رسوله ﷺ :” إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه”وهذا الذي لا يصوم ولا يصلي، ليس عنده ما يرضي من دين.
صحيح أن البعض يقول أن عنده ” أخلاق جيدة” إلا أن الخلق بعض الدين لا كله، فالخلق حق الناس عليه ، فأين حق الله عليه؟
وإن كنا نخشى من صناعة هذا المصطلح ، نعني صناعة ” الرجل المحترم” ذلك الرجل الذي يعنون به أنه رجل حسن الخلق ، لا يؤذي أحدا، ولا يستطيل على أحد في مال أو عرض ، بل يمد يد العون للمحتاجين، ويدل على الخير المستنصحين، إلا أنه لا يؤدي حق الله عليه ( فلا صلاة ولا صوم ولا انقياد لله الآمر) فمثل هذا الرجل، الخوف منه كبير ، حيث لا يشعر لا هو ولا من حوله بخطئه فيدله على الصواب ، بل يظن ويظن معه الناس أنه على خير، وهذا أعظم ما يكيد به الشيطان للناس أن يزين لهم عملهم فلا يروه قبيحا ليتركوه.
ولسنا بهذا نعني أن من لا يرضى خلقا ولا دينا أفضل في دين الله مما يرضى خلقا، ولكن نقصد أن من يشعر أنه بعيد من الله يكون علاجه أقرب من غيره.
وفي مثل هذه الحالة يكون سائغا أن نقارن بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار ، والمكاسب والخسائر ، وليس بين حظوظ النفس وحقوق الله، كأن تتهاون الفتاة مع من يتقدم إليها عن السن الذي تحب ، وعن الشكل الذي ترغب، وعن الجاه الذي تنشد، وعن الوضع المالي ، والوضع الاجتماعي، ونحو ذلك، وهذا ما فعله سيدنا جابر بن عبد الله حينما تزوج ثيبا لا بكرا لحاجة أخواته البنات إلى امرأة تقوم عليهن.
إلى هذه الأمور يمكن أن تنظر الفتاة بعين واحدة أو بنصف عين أو بأقل من ذلك حسبما تشاء، وأما عن حقوق الله فلا بد من النظر إليها بملء العينين كلتيهما، فإذا نظرنا إلى الخاطب هذه النظرة، وجدنا أنه ( لا يصلي، لا يصوم، قد يكون عنده قدر من الفضول قد يجره إلى حرمات الله، وقد يكذب) وهذه صفات في عين الفاحص الذي يرى بالعينين قادحة قاتلة تكفي لرده وطرده دون تردد أو تفكير.
وإننا مع ذلك لا ندعو إلى العجلة في رده ، ولكن لتجرب الفتاة، ولكن أثناء الخطبة لا الزواج على أن تكون فترة الخطبة ليست قصيرة ولا تنفرد هي وهو أثناء الخطبة في مكان لايوجد فيه محرم لها أبدا، فتنظر كيف تتصور دعوته إلى ما يدعه من دين الله فصانعيه معه أثناء الخطبة ، فإن استيقظ الإيمان في قلبه ,وآنست منه رشدا فتزوجيه وإلا فرديه، ولا تقلقي!
لا تقلقي لأن من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه.
-كما ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها، فلما دخل بها، قال هذا خير مما كنت تريدين!!
فتأملي أيتها المسلمة كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء وأذل له العزيز امرأته وأقرت المرأة والنسوة ببراءته!!
وهذه سنته تعالى في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة.
-ولما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد،
-ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها.
ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى :”ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب” فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب ،وكذلك الزانيلو ترك ركوب ذلك الفرج حراما لله لأثابه الله بركوبه، أو ركوب ما هو خير منه حلالا.[1]
[1] – روضة المحبين لابن القيم ( 1/ 448)