النبي هو شمويل، ويقال: أشمويل بن بالى بن علقمة وهو من ورثة هارون حكى السدى بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وسبوا من أبنائهم جمعًا كثيرًا وانقطعت النبوة من سبط (لاوى) ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى، فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولدًا ذكرًا فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه بالعبرانية إسماعيل أي سمع الله دعائي، فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته لرجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته، فكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعورًا فظنه الشيخ يدعوه فسأله: أدعوتنى؟ فكره أن يفزعه فقال: نعم. نم. فنام. ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل عليه السلام يدعوه فجاءه فقال: إن ربك قد بعثك إلى قومك، فكان من أمره معهم ما قص الله فى كتابه. قال الله تعالى فى كتابه العزيز: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال إلا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين) (البقرة:246).
قال أكثر المفسرين: كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو (شمويل).
والخلاصة: أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الأعداء سألوا نبي الله فى ذلك الزمان، وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكًا يكونون تحت طاعته ليقاتلوا الأعداء من ورائه ومعه وبين يديه، فقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) أي نحن موتورون فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المقهورين والمستضعفين المأسورين في قبضتهم
قال تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين) كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل، والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال.
(وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا).
قال الثعلبى: وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
قال عكرمة والسدي: كان سَقَّاء. وقال وهب بن منبه: كانا دباغًا. وقيل غير ذلك فالله أعلم. ولهذا: (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط (لاوى) وأن الملك كان في سبط (يهوذا) فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا: (نحن أحق بالملك منه). وذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكًا.
(قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم).
قيل: كان الله تعالى قد أوحى إلى شمويل أن أى واحد من بنى إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور الدهن الذى فى هذا القرن فهو ملكهم، (والقرن عبارة عن عظم ينبت فى رءوس بعض الحيوانات كان عند شمويل) فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت، ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن بدهن القدس، فدهنه منه وعينه ملكًا عليهم وقال لهم: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم). والظاهر من القياس أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام.
(والله يؤتى ملكه من يشاء ) فله الحكم وله الخلق والأمر( والله واسع عليم ) (247)) (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) (البقرة:248). وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذى كان سُلب منهم وقهرهم الأعداء عليه، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه (فيه سكينة من ربكم) قيل: طستٌ من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء، وقيل: السكينة مثل الريح الخجوج (أى الدائمة الهبوب). وقيل: صورتها مثل الهرة. إذا صرخت فى حال الحرب. أيقن بنو إسرائيل بالنصر (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قيل: كان فيه رضاض (كسر) الألواح وشئ من المن الذى كان نزل عليهم بالتيه. وقيل: كان فيه التوراة أيضًا (تحمله الملائكة) أى تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانًا ليكون آية لله عليكم، وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم، ولهذا قال: (إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).
وقيل: إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة أيضا، فلما استقر فى أيديهم وضعوه تحته صنم لهم كان بأرضهم فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم، فوضعوه تحته فلما كان اليوم الثانى إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم وجعلوه فى قرية من قراهم فأخذهم داء فى رقابهم، فلما طال عليهم هذا جعلوه فى عجلة وربطوها فى بقرتين وأرسلوهما. فيقال: إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بنى إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك فالله أعلم أى صفة جاءت به الملائكة. وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم.
(فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده) (البقرة:249).
قال ابن عباس وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت وجنوده عند هذا النهر عن أمر نبى الله له عن أمر الله له اختبارًا وامتحانًا.
فالله تعالى أراد أن يختبرهم ليبين لهم من الذى يستحق أن ينصره الله تعالى، فأوحى الله إلى نبيهم أن يأمر طالوت أن يقول لهم: إن من شرب من هذا النهر فلا يصحبنى فى هذه الغزوة إلا أن يكون أخذ غرفة فى يده (فشربوا منه إلا قليلاً منهم).
قال السدى: كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب منه ستة وسبعون ألفًا فبقي معه أربعة آلاف. كذا قال.
وقد روى البخارى فى صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثورى عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشرة وثلاثمائة مؤمن. وقول السدى أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفًا فيه نظر لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفًا والله أعلم.
قال الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) أى استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم، (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).
يعنى ثبتهم الشجعان منهم والفرسان، أهل الإيمان والإيقان، الصابرون على الجلاد والطعان.
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر: أى يعمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم فى مجال الحرب ومعترك الأبطال، وحومة الوغى والدعاء إلى النزال، فسألوا الله التثبيت الظاهر والباطن، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه، من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير إلى ما سألوا، وأنالهم ما رغبوا، ولهذا قال: (فهزموهم بإذن الله) أي بحول الله وقوته لا بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم، كما قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) (آل عمران:123).
وقال تعالى: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتل جالوت قتلاً أذل الله تعالى به جنده وكسر جيشه، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها قائد الجيش فتغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة، ويؤسر الأبطال والشجعان والأقران، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.
وقد ذكر السدي فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكرًا، وكان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده ويقول: من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته فى ملكي، وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة (وهو المقلاع) رميًا عظيمًا فبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت، فأخذه، ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك فأخذ الثلاثة في مخلاته، فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له: ارجع فإني أكره قتلك، فقال: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرًا واحدًا، ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه، وفر جيشه منهزمًا، فوفى له طالوت بما وعده، فزوجه ابنته وأجرى حكمه فى ملكه، وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل، وأحبوه .