الرجوع إلى الإيمان الخالص بالله سبحانه وتعالى وبالآخرة هو الأمل الوحيد في خلاص الإنسان مما يعانيه من مشكلات تهدد الإنسان بالدمار، دمار خصائصه الذاتية، ومقوماته المعنوية، التي كان بها إنساناً، واستحق بها السيادة في الكون والخلافة في الأرض.
إن الإيمان الحق -كما جاء به الإسلام- هو الحل الفذ لعقد الحياة المعاصرة التي استعصت على العلم وعلى الفلسفة، وحار فيها المفكرون والمشرعون وطلاب الإصلاح.
وننقل هنا كلمة مضيئة للداعية الإسلامي الكبير أبي الحسن الندوي، بين فيها كيف طلعت شمس الرسالة المحمدية على العالم فأفاضت عليه نوراً جديداً، وحياة جديدة.
وكيف فتح النبي محمد ﷺ أقفال الحياة الكثيرة المتعددة بمفتاح الإيمان العجيب، قال الأستاذ في حديث شاعري بينه وبين نفسه عند غار حراء في مكة المكرمة:
“لقد كانت الحياة كلها أقفالاً معقدة، وأبواباً مقفلة، كان العقل مقفلاً أعيا فتحه الحكماء والفلاسفة، كان الضمير مقفلاً أعيا فتحه الوعاظ والمرشدين، كانت القلوب مقفلة أعيا فتحها الحوادث والآيات، كانت المواهب مقفلة أعيا فتحها التعليم والتربية والمجتمع والبينة، كانت المدرسة مقفلة أعيا فتحها العلماء والمعلمين، كانت المحكمة مقفلة أعيا فتحها المتظلمين والمتحاكمين، كانت الأسرة مقفلة أعيا فتحها المصلحين والمفكرين، كان قصر الإمارة مقفلاً أعيا فتحه الشعب المظلوم والفلاح المجهود والعامل المنهوك، وكانت كنوز الأغنياء والأمراء مقفلة أعيا فتحها جوع الفقراء وعري النساء وعويل الرضعاء، لقد حاول المصلحون الكبار والمتشرعون العظام فتح قفل من هذه الأقفال ففشلوا وأخفقوا، فإن القفل لا يفتح بغير مفتاحه وقد ضيعوا المفتاح من قرون كثيرة وجربوا مفاتيح من صناعتهم ومعادنهم فإذا هي لا توافق الأقفال وإذا هي لا تغني عنهم شيئاً، وحاول بعضهم كسر هذه الأقفال فجرحوا أيديهم وكسروا آلتهم.
ففي هذا المكان المتواضع، المنقطع عن العالم المتمدن، على جبل ليس بمخصب ولا بشامخ تم ما لم يتم في عواصم العالم الكبيرة ومدارسه الفخمة ومكتباته الضخمة.
وهنا مَنَّ الله سبحانه وتعالى على العالم برسالة محمد ﷺ، وفي رسالته عاد هذا المفتاح المفقود إلى الإنسانية، ذلك المفتاح هو (الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر) ففتح به هذه الأقفال المعقدة قفلاً قفلاً، وفتح به هذه الأبواب المقفلة باباً باباً، وضع هذا المفتاح النبوي على العقل الملتوي فتفتح ونشط واستطاع أن ينتفع بآيات الله في الآفاق والأنفس، ويتوصل مع العالم إلى فاطره، ومن الكثرة إلى الوحدة، ويعرف شناعة الشرك والوثنية والخرافات والأوهام. وكان قبل ذلك محامياً مأجوراً يدافع عن كل قضية حقاً وباطلاً. وضع هذا المفتاح على الضمير الإنساني النائم فانتبه، وعلى الشعور الميت فانتعش، وعاش، وتحولت النفس الأمارة بالسوء مطمئنة لا تسيغ الباطل ولا تتحمل الإثم حتى يعترف الجاني أمام الرسول بجريمته ويلح على العقاب الأليم الشديد، وترجع المرأة المذبة إلى البادية حيث لا رقابة عليها ثم تحضر المدينة وتعرض نفسها للعقوبة التي هي أشد من القتل. ويحمل الجندي الفقير تاج كسرى ويخفيه في لباسه ليستر صلاحه وأمانته عن أعين الناس ويدفعه إلى الأمير لأنه مال الله الذي لا يجوز الخيانة فيه.
كانت القلوب مقفلة لا تعتبر ولا تزدجر ولا ترق ولا تلين فأصبحت خاشعة واعية تعتبر بالحوادث وتنتفع بالآيات، وترق للمظلوم وتحنو على الضعيف.
وضع هذا المفتاح على القوى المخنوقة والمواهب الضائعة فاشتعلت كاللهيب وتدفقت كالسيل، واتجهت الاتجاه الصحيح، فكان راعي الإبل راعي الأمم وخليفة يحكم العالم وأصبح فارس قبيلة وبلد، قاهر الدول وفاتح الشعوب العريقة في القوة والمجد. وضع المفتاح على المدرسة المقفلة وقد هجرها المعلمون وزهد فيها المتعلمون وسقطت قيمة العلم وهان المعلم، فذكر من شرف العلم وفضل العالم والمتعلم والمربي والمعلم، وقرن الدين بالعلم حتى كانت له دولة ونفاق، وأصبح كل مسجد وكل بيت من بيوت المسلمين مدرسة، وأصبح كل مسلم متعلماً لنفسه، معلماً لغيره، ووجد أكبر دافع إلى طلب العلم وهو الدين.
وضعه على المحكمة المقفلة فأصبح كل عالم قاضياً عادلاً وكل حاكم مسلم حكماً مقسطاً، وأصبح المسلمون قوامين لله شهداء بالقسط، ووجد الإيمان بالله وبيوم الدين فكثر العدل وقل الجدل، وفقدت شهادة الزور والحكم بالجور.
وضعه على الأسرة المقفلة وقد فشا فيها التطفيف بين الوالد وولده، والأخ واخوته، والرجل وزوجته، وتعدى من الأسرة إلى المجتمع فظهر بين السيد وخادمه والرئيس والمرؤوس والكبير والصغير، كل يريد أن يأخذ ما له ولا يدفع ما عليه، وأصبحوا مطففين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، فغرس في الأسرة الإيمان وحذرها من عقاب الله، وقرأ عليها قول الله (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً) (النساء: 1)، وقسم المسئولية على الأسرة والمجتمع كله فقال: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”، وهكذا أوجد أسرة عادلة متحابة مستقيمة ومجتمعاً عادلاً، وأوجد في أعضائه شعوراً عميقاً بالأمانة وخوفاً شديداً من الآخرة حتى تورع الأمراء وولاة الأمور، وتقشفوا، وأصبح سيد القوم خادمهم، ووالي الأمة كولي اليتيم: إن استغنى استعف وإن افتقر أكل بالمعروف، وأقبل إلى الأغنياء والتجار فزهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة وأضاف الأموال إلى الله فقرأ عليهم (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7)، (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33) وحذرهم من اكتناز وادخار الأموال وعدم الأنفاق في سبيل الله، فقرأ عليهم (والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون) (التوبة: 34، 35).
أبرز رسول الله ﷺ برسالته ودعوته الفرد الصالح المؤمن بالله، الخائف من عقاب الله، الخاشع الأمين، المؤثر للآخرة على الدنيا، المستهين بالمادة المتغلب عليها بإيمانه وقوته الروحية، يؤمن بأن الدنيا خُلقت له وأنه خُلق للآخرة، فإذا كان هذا الفرد تاجراً فهو التاجر الصدوق الأمين، وإذا كان فقيراً فهو الرجل الشريف الكادح، وإذا كان عاملاً فهو العامل المجتهد الناصح، وإذا كان غنياً فهو الغني السخي المواسي، وإذا كان قاضياً فهو القاضي العادل الفهم، وإذا كان والياً فهو الوالي المخلص الأمين، وإذا كان سيداً رئيساً فهو الرئيس المتواضع الرحيم، وإذا كان خادماً أو أجيراً فهو الرجل القوى الأمين، وإذا كان أميناً للأموال العامة فهو الخازن الحفيظ العليم. وعلى هذه اللبنات قام المجتمع الإسلامي وتأسست الحكومة الإسلامية في بدورها، ولم يكن المجتمع والحكومة بطبيعة الحال إلا صورة مكبرة لأخلاق الأفراد ونفسيتهم، فكان المجتمع مجتمعاً صالحاً أميناً مؤثراً للآخرة على الدنيا متغلباً على المادة غير محكوم لها، انتقل إليه صدق التاجر وأمانته، وتعفف الفقير وكدحه، واجتهاد العامل ونصحه، وسخاوة الغني ومواساته، وعدل القاضي وحكمته، وإخلاص الوالي وأمانته، وتواضع الرئيس ورحمته، وقوة الخادم، وحراسة الخازن، وكانت هذه الحكومة حكومة راشدة ومؤثرة للمبادئ، على المنافع، والهداية على الجباية، وبتأثير هذا المجتمع وبنفوذ هذه الحكومة وجدت حياة عامة، كلها إيمان وعمل صالح، وصدق وإخلاص، وجد واجتهاد، وعدل في الأخذ والعطاء، وإنصاف النفس مع الغير.
وقد ذهلت في حديثي لنفسي، وتمثلت إلى الجماعات الإسلامية الأولى بحملها وتفاصيلها كأني أشاهدها وأتنفس في جوها وانقطعت الصلة بيني وبين العالم المعاصر.
وحانت مني التفاتة إلى هذا العصر الذي نعيش فيه فقلت: إني لأرى أقفالاً جديدة على أبواب الحياة الإنسانية وقد قطعت الحياة مراحل طويلة وخطت خطوات واسعة وتعقدت الحياة والتوت وتطورت المسائل وتنوعت، وتساءلت: هل يمكن فتح هذه الأقفال الجديدة بذلك المفتاح العتيق؟ وأبيت أن أحكم بشيء، هل أختبر هذه الأقفال وأضع عليها المفتاح، ولمست هذه الأقفال بالبنان فإذا هي الأقفال القديمة بتلوين جديد، وإذا المشاكل نفس مشاكل العصر القديم، وإذا المشكلة الكبرى وأساس الأزمة هو الفرد الذي لا يزال لبنة المجتمع وأساس الحكومة، ووجدت أن هذا الفرد قد أصبح اليوم لا يؤمن إلا بالمادة والقوة، ولا يعنى إلا بذاته وشهواته وأنه يبالغ في تقدير هذه الحياة ويسرف في عبادة الذات وإرضاء الشهوات، وقد انقطعت الصلة بينه وبين ربه ورسالة الأنبياء وعقيدة الآخرة، فكان هذا الفرد هو مصدر شقاء هذه المدينة، فإذا كان تاجراً فهو التاجر المحتكر النهم الذي يحجب السلع أيام رخصها ويبرزها عند غلائها ويسبب المجاعات والأزمات، وإذا كان فقيراً فهو الفقير الثائر الذي يريد أن يتغلب على جهود الآخرين بغير تعب، وإذا كان عاملاً فهو العامل المطفف الذي يريد أن يأخذ ما له ولا يدفع ما عليه، وإذا كان غنياً فهو الغني الشحيح القاسي الذي لا رحمة فيه ولا عطف، وإذا كان والياً فهو الوالي الغاش الناهب للأموال، وإذا كان سيداً فهو الرجل المستبد المستأثر الذي لا ينظر إلا إلى فائدته وراحته، وإذا كان خادماً فهو الضعيف الخائن، وإذا كان خازناً فهو السارق المختلس للأموال، وإذا كان مشرعاً فهو الذي يسن القوانين الجائرة والضرائب الفادحة، وإذا كان مخترعاً اخترع المدمرات والناسفات، وإذا كان مكتشفاً اكتشف الغازات المبيدة للشعوب، المخربة للبلاد، والقنبلة الذرية التي تهلك الحرث والنسل، وإذا كان فيه قوة التطبيق والتنفيذ لم ير بأساً بإلقاء القنابل على الأمم والبلاد.
وبهؤلاء الأفراد تكوَّن المجتمع وتأسست الحكومة، فكان فيه مجتمعاً مادياً، اجتمع فيه احتكار التاجر وثورة الفقير وتطفيف العامل وشح الغني وغش الوالي، واستبداد السيد وخيانة الخادم وسرقة الخازن ووطنية (يقصد الكاتب بالوطنية النـزعة الإقليمية التي تجعل كل ولائها لأرضها فحسب) الزعماء وإجحاف المشرع وإسراف المخترع والمكتشف وقسوة المنفذ، وبهذه النفسيات المادية تولدت أزمات عنيفة ومشاكل معقدة، تشكو منها الإنسانية بثها وحزنها، كالسوق السوداء وفشو الرشوة والغلاء الفاحش واختفاء الأشياء والتضخم النقدي، وأصبح المفكرون والمشرعون لا يجدون حلاً لهذه المشاكل، وأصبحوا إذا خرجوا من أزمة واجهوا أزمة أخرى، بل إن حلولهم القاهرة ومعالجتهم المؤقتة هي التي تسبب أزمات جديدة، وتنقلوا من حكومة شخصية إلى ديمقراطية إلى دكتاتورية ثم إلى ديمقراطية، ومن نظام رأسمالي إلى نظام اشتراكي إلى شيوعي، وإذا الوضع لا يتغير لأن الفرد الذي هو الأساس لا يتغير، ويجهلون، أو يتجاهلون، في كل ذلك، أن الفرد هو الفاسد المعوج، ولو عرفوا أن الفرد هو الأساس وأنه فاسد معوج لما استطاعوا إصلاحه وتقويمه لأنهم على كثرة مؤسساتهم العلمية ودور التعليم والتربية والنشر، لا يملكون ما يصلحون به النفوذ، ويقومون اعوجاجه، ويحولون اتجاهه من الشر إلى الخير، ومن الهدم إلى البناء، لأنهم أفلسوا في الروح، وتخلوا عن الإيمان، وفقدوا كل ما يغذي القلب ويغرس الإيمان، ويعيد الصلة بين العبد وربه، وبين هذه الحياة والحياة الأخرى، وبين المادة والروح، وبين العلم والأخلاق، وفي الأخير أدى بهم إفلاسهم الروحي وماديتهم العمياء واستكبارهم إلى استعمال آخر ما عندهم من آلات التدمير التي تبيد شعباً بأسره وتخرب قطراً بطوله، حتى استهدفت الحضارة والحياة البشرية -إذا تبادلت الدول المتحاربة استعمال هذه الآلات- للنهاية الأليمة.” انتهى كلام الداعية أبي الحسن الندوي
إننا لا ننكر أهمية المجتمع الصالح، بل ضرورته لتنشئة الفرد الصالح، ولكن المجتمع إن هو -في الواقع- إلا بناء لبناته الأفراد، فإذا لم تصلح اللبنات في نفسها لم يتصور أن يقوم عليها بنيان سليم.
لبنات المجتمع هي كل مسلم ومسلمة، فإذا أصلحنا أنفسنا صلح المجتمع كله، ومفتاح هذا الصلاح النفسي والخلقي شيء واحد هو الإيمان الخالص بالله سبحانه وتعالى وعبادته.
قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖوَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )