أعد الدكتور- مصطفى الزرقا– من كبار علماء سوريا- بحثا في ذلك، وخلص منه إلى أنه لا مانع من أن يستفيد المستأجر بالشقة المستأجرة حسب ما يفرضه القانون، فإذا كان القانون يلزم المالك بأن تنتقل أحقية استئجار الشقة إلى الورثة، فيجوز للورثة ذلك بشرط أن يزيد الوارث في الأجرة ليصلها إلى أجرة المثل.
يقول الدكتور- مصطفى الزرقا- من كبار علماء سوريا-
هذا موضوع مُهِمٌّ جدًّا، ويكثر سؤال الناس الذين يهِمُّهم أمرُ دينهم عنه، فمعظَم الناس مستأجِرون إما لعملهم وإما لسُكناهم، والكلُّ يعيشون في بلادنا هذه السورية وفي معظم البلاد العربية والإسلامية في ظل قوانين زمنية تحدد أجور العقارات على مالكيها، وتقيِّد حريتهم في إخلاء عقاراتهم بعد انتهاء مدة الإيجار،فتعطِي المستأجر حق البقاء إن شاء ما دام قائمًا بواجباته تجاه المؤجِّر، وقابلاً بالحدود القانونية للأجور. والذي أذكر أن مبدأ هذا التحديد القانوني للأجور في البلاد المنفصِلة عن الدولة العثمانية بالنسبة للعقارات المملوكة، إنما كان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فقبلها لم تكن لدينا قوانين تحدِّد الأجور، وتعطِي المستأجِر حقَّ البقاء، ولكن اتجاه الدول اليوم إلى ذلك يكاد يكون عالميًّا، فهو اليوم من التدابير التشريعية الأساسية في كثير من دول العالم المُتَمديِن؛ لأن مشكلة الإيجارات برزتْ بصورة وثيقة الارتباط بالنظام الاقتصادي، وسياسة التشريع القانوني، حتى أصبحت تعتبر اليوم من قضايا النظام العام التي لا يعتبر الاتِّفاقُ على خلافها صحيحًا ملزِمًا بالنظر القانوني النافذ.
–فما هو موقف الفقه الإسلامي من ذلك؟
–وما هو نظره إلى المستفيد من هذا التَّقنين إذا كان ساكنًا عقارًا؟
–وهل يحِلُّ له شرعًا أن يستمر ساكنًا فيه بحكم القانون دون رضا مالكه؟
–وأن يدفع أجره بالنسبة القانونية إذا كان المالك لا يرضَى بها، وهناك من يستأجره بأكثر؟
الجواب الشرعي في هذه القضية هو فرع من أصل، فيجب أن يُعرَفَ الأصل، فيتضح الجواب كتطبيق له.
فالأصل هنا الواجب بحثه وتجليته هو أنه:
-هل يجوز شرعًا لولي الأمر (وهو السلطة القائمة في الدولة) أن يقوم بمثل هذا التحديد في أسعار الحاجيّات، ومنها أجور العقارات؟
-وإذا كان يجوز له ذلك شرعًا، ويدخل في ولايته وسلطانه، فهل حقُّه الإداري في ذلك مطلّق أو مُقَيَّد؟
وعلى كل حال إذا مارس وليُّ الأمر هذا الحق ضمنَ حدود سلطته الشرعية كان واجبَ الطاعة وملزِمًا، وعندئذٍ يحلُّ لكل ذي عَلاقة أن يَستفيد منه وإلا فلا.
هذا ما سنجليه ونطبِّقه على القضية المطروحة أمامنا؛ ذلك لأنه لا يوجد فيما أعلم نصوص للفقهاء بشأن تحديد أجور العقارات المملوكة خاصّة، فإنه لم يقع هذا التحديد في العصور الفقهية السابقة، بل هو من وقائع عصرنا الحاضر، فوجَب الرجوع إلى الأصول العامّة في الشريعة، وإلى نصوص الفقهاء في القضايا المُشابهة، وتطبيقها على الموضوع:
إن الحنفية يرون من صلاحية الحاكم شرعًا تَسعيرَ الحاجيات الضرورية إذا غَلا أربابها (أي: مالِكوها) في أسعار بيعها غلُوًّا يُلْحِق ضررًا بالناس (أي: المستهلكين بلغة اليوم) أو يُرهِقُهم، استبدادًا وتحكُّمًا من الباعة في السِّعر دون أسباب موجبة لرفع الأسعار (كغلاء أسعار بعض المستوردات الأجنبية من مصادِرها مثلاً)، ففي هذه الحال مِن تَحَكُّمٍ الباعة واستبدادهم، يَجِبُ عند الحنفية على الحاكم أن يقوم بتَسعير السِّلع، ومنع تجاوز الباعة للسعر المحدَّد وعقوبة المخالف، سواء أكان التحكم في السعر ناشئًا عن تواطؤ واغتصاب بين الباعة، أم دون تواطؤ، بشرط أن يكون التسعير عادِلاً، وهي مسألة خلافيّة معروفة.
والقائلون بالتّسعير يُجيبون عمّا ورد في السنة النبوية في عدم رغبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في التسعير عندما غلت الأسعار في عهدِه، وطَب منه بعضُ الصحابة التسعيرَ ـ بأنّ ذلك كان في حالة ارتفعت فيها الأسعار بأسباب طبيعية رفعتْ تكاليفَ السلع على أصحابها؛ ولذلك أجابهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله:
“إن اللهَ هو المُسعِّر القابِض الباسِط الرّازق، وإني لأرجو أن ألقَى اللهَ وليس أحدٌ منكم يطلبني بمَظلمة من دم ولا مال”. مما يدل أن الغلاء كان لأسباب خارجة عن إرادة الباعة، فيكون التسعير فرضًا للخسارة عليهم وظلمًا لهم في رؤوس أموالهم.
ولا يخَفَى أن تحديد أجور العقارات هو نوع من التسعير لنوع من الحاجيّات الضّروريّة، وهي منافعُ العقار المأجور؛ لأن أجرة سُكْناه لمدة هي ثمن منافِعِه في تلك المدة، والإجارة في نظر الحنفية هي نوع من البيع مع بعض فوارقَ؛ لأنها بيعٌ للمنافع، فما يقال في البيع يقال فيها سوى ما كان من نقاط الافتراق في طبيعة العَقدين، وليس هذا من تلك النقاط.
ولا يخفَى أيضًا أن استئجار العقار تزايدت ضرورته بين الناس في عصرنا لأسبابٍ عديدةٍ اقتصاديّةٍ، منها غلاء قِيم العقارات، وترجيح الكثيرين أن يستثمروا رؤوس أموالهم في التجارة والإنتاج، ويستأجروا العَقار اللازم بدلاً من شرائه وتجميد ثمنه الباهظ، وهذا هو الاتجاه الاقتصادي العالمي اليوم، خِلافًا لما كان في العصور القديمة، حيث كان يغلب في عادة الناس أن يَشتروا العَقار لِيسكُنوا، أو يعملوا فيه.
وبذلك أصبحت علاقة الإيجار وعقده موضع اهتمام دول العالم اليوم، لأن مشكلتَه ذات أثر منعكس على الاقتصاد العام في الدولة، وأبرزُ ظواهر هذا الاهتمام هو تحديد أجور العقارات. ومنعُ تَخلية المستأجِر ما دام راغبًا في البقاء، وموفِّيًا بالتزاماته، وغير مُسيء للاستعمال إلا في حالات مُعيّنة محدّدة بالقانون تجوز فيها التَّخلية.
-وفي البلاد التي لا يوجد فيها اليوم تحديد لأجور العقارات، وتقييد لحق المالك في التَّخلية، كما في بعض البلاد العربية، تقع مُشكلات، وجَوْر، وتحكُّم يضِجُّ منه الناس، ولا يُقِرّه الشّرع.
-فقد حدثنا كثيرون أن التاجر مثلاً، أو ربَّ العمل هناك يستأجر مَتجرًا أو مَحَلًّا لينصب فيه معملاً، ويتكلف في النقل والتهيئة تكاليفَ كبيرةً، ثم تنتهي سنة الإيجار فيطلب منه مالك العقار ضعفي الأجرة، أو أضعافًا، أو يؤجِّر لغيره رأسًا بحجة أنه حُرٌّ في التجديد وفي السعر، فيضطر الأول إمّا إلى إرضاء المالك بما لا يُطيقه، فيرفع أسعار مبيعاته هو أيضًا، وإما إلى الخروج والتفتيش عن محل آخر بعد أن يكون قد اشتهر في محله الأول ودار دولاب تجارته أو صناعته، ولا شكَّ أن في هذا، وفي زمننا هذا، مُنتَهَى الإحراج. وإرادة المالك مقيّدة شرعًا بِألَّا يُساءَ استعمال حق الملكية فيما يُؤذي الناس باستغلال اضطرارِهم، وبالطمع، والكيد؛ ولذلك قد تُنْزَع الملكية جَبرًا بحكم الشرع في حالات عديدة، وعلى هذا أدلّة شرعية عديدة.
-فتحديد الأجور بصورة عادلة، يدخل في حق ولي الأمر وصلاحيته في تسعير الحاجيّات والسلع الضرورية، وإن تقييد حق مالك العقار في تخلية مستأجره منعًا للتعسُّف، يدخل كذلك في ولاية وليِّ الأمر بمقتضى أصل الاستحسان والاستصلاح؛ وَفقًا لقاعدة المصالح المُرسَلة الموضَّحة في أوائل كتابي “المدخل الفقهي العام”.
شاهد قياسي آخر: على أن لفقهائنا حكمًا مماثلاً تمامًا في عقارات الأوقاف: فقد أقرَّ فقهاء الحنفية ـ وتابعَهم غيرُهم ـ أنواعًا من حقوق القرار على عقارات الأوقاف لمستأجِريها، وقيّدوا حقّ المتولّي الناظر في تخليتهم منها، من أمثلة ذلك حَقُّ الكَدِك، ومشدّ المَسَكة، والقيمة، والكردار، وسواها.
فالكَدِك مثلاً أصله أن شخصًا يستأجر دكانًا موقوفًا، ويقيم فيه من الأدوات والتأسيسات ما تحتاج إليه صناعتُه أو تجارتُه كالرفوف وكالتنور للخَبّاز مثلاً فتنقضِي مدة الإيجار، ويريد متولي الوقف إخراجه وإيجار العقار لغيره بحجة أنّه حُرٌّ في الإيجار له أو لغيره، فيتضرّر الأول بنقض ما أسّس، وضَياع ما أنفق، فلما كثُرت هذه الحوادث، وتظلَّم الناس منها أفتَى الفقهاء بأن المستأجِر في مثل هذه الحال لا يجوز إخراجه ما دام يدفع أجرَ المثل للوقف عن هذا العقار المُعَدِّ للإيجار دائمًا؛ لأنه موقوف لذلك والمتولّي أمين عليه، حتى إنه لا تُقبل من غير المستأجر أجرةٌ أزيدُ إذا جاء من يدفع للوقف أجرةً أكثرَ، فإنه لا تُقبل منه المزايدة إذا تبيّن أن زيادته هي زيادة كَيديّة، ولم ترتفع أجرة هذا العقار في ذاتها بسبب من الأسباب غير المكايدة.
هذا هو أصل فتوى الفقهاء في حق القرار المسمى بالكَدِك على عقارات الأوقاف، وهو موقف تتجلَّى فيه فكرة الإنصاف الذي هو من صميم الشريعة الإسلامية التي تأبى التعسُّف، وتمنع الضّرر، ونظيره فتواهم في الأنواع الأخرى المشابهة كالقيمة ومشدّ المَسَكة في البساتين والأراضي الزراعية الموقوفة.
وهذا من فقهائنا في الأصل موقف نبيل في التعبير عن عدل الشريعة (بقطع النظر عما آلتْ إليه الحال من أكل حقوق الوقف بسبب تهاون الحكام في صيانة الأوقاف وضعف الدفاع عنها، فذلك أمر آخر مُنفصِل عن المبدأ الفقهي العادل الذي انبعثت منه فتوى الفقهاء في ذاك الموضوع).
هذا، ولا يخفَى أن ما جازَ في الوقف ـ من تَسعير وتقييد ـ أمكنَ أن يجريَ شرعًا على العقارات المملوكة في حالات مماثلة وعواملَ متشابهةٍ، ولا سيما إذا أصبحت حاجةً عامة تزول معها الفوارق التي كانت ملحوظة بين الوقف والمِلك، وتضطرب حياة الناس دونها، كما هو واضح اليوم لو أطلقت لمالك العقار حريّة الإيجار والتَّخلية والأسعار، وأدَّى ذلك إلى انعكاسات وانتكاسات واختلال الطمأنينة في الحياة الاقتصادية العامة.
وبناء على ذلك فما جاز شرعًا لولي الأمر فعله جاز لكل إنسان أن يستفيد منه، فيجوز لمستأجر العقار اليوم في ظل قانون الإيجار الذي يقيِّد حق التّخلية، ويحدِّد الأجور أن يستفيد منه ولو لم يَرض المالك، وليس مكلَّفًا أن يشتريَ رضاه بما يُرهِقه أو يُعجِزه، اللهم إلا إذا كان تحديد الأجرة في القانون غير عادل، وفيه جور على المالك في نظر الخبراء العالمين بالظروف الاقتصادية في البلد وتكاليف الحياة والأسعار العامة فيه؛ لأن الحاكم عندئذٍ يكون في الأصل ظالمًا، وسلطته الشرعيّة في التسعير ونحوه ليست سلطة مطلقة كيفية استبدادية، بل هي مقيدة بعدم الجَور؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية بلسان فقهائها أن: “التصرُّفَ على الرَّعية مَنوط بالمصلحة”. ومن الواضح المعلوم شرعًا أنه لا يجوز لأحد أن يستفيد من ظلم غيره ولو بأمر الحاكم.
هذا ما يظهر لي في جواب هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو مُلهم الصواب.