ذهب جمهور العلماء إلى إنه يحرم الرجوع في الهبة إلا في هبة الوالد لولده وما عدا ذلك فهو باق على أصل التحريم، ومن ثم فهبة الزوج الذهب لزوجته لا يجوز الرجوع فيها عند جمهور العلماء، لأنه عندما أعطاها إياه لم يقيده بكونها زوجته ولا بأن الهدف أن تتزين له وحده .
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام:
الهِبَة في الشرع هي تمليك الإنسان شيئًا من ماله لغيره في حياته بلا عوض، فإذا كان التمليك بعد الوفاة كان وصية، وإذا كان بعوض كان هدية أو بيعًا .
والهبة في الحياة بدون عوض مشروعة بل مندوبة لما فيها من تأليف القلوب ، وقد جاء في الحديث الحسن ” تهادوا تحابوا ” وكما حث الرسول ـ ﷺ ـ على تقديمها حث على قبولها ، ففي حديث أحمد ” من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ـ أي تطلع ـ ولا مسألة فليقبله ولا يرده ، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ” وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية، فقد جاء في رواية أحمد ” لو أُهدي إلىَّ كراع لقبلت ” والكراع من عظام الأطراف .
والهبة تستحق للموهوب له بمجرد العقد حتى لو لم يقبضها ، كما قال مالك وأحمد ، لكن أبا حنيفة والشافعي شرطا القبض حتى تكون لازمة ، والرجوع في الهبة حرام عند جمهور العلماء، إلا إذا كانت من الوالد لولده ، فإنَّ له أن يرجع فيها ، لما رواه أصحاب السُّنن أنَّ النبي ـ ﷺ ـ قال ” لا يَحِلُّ لرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عطية أو يهب هبة فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يُعطي ولده ” وحُكم الوالد حكم الوالدة ، ويستوي في الولد أن يكون كبيرًا أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى .
وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع فيما وَهَبَ لابنه وَلكلِّ ذِي رَحِمٍ من الأرْحَامِ ، وهو رأي غيرُ قوي لمعارضته للحديث . وجاء في النهي عن الرجوع في الهبة حديث الترمذي وغيره وهو حسن صحيح ” مَثَلُ الذي يُعطي العَطية ثُمَّ يَرْجِعُ فيها كَمَثَلِ الْكَلْب يأكل ، فإذا شبع قَاءَ ثم عادَ في قَيْئِه ” وفي إحدى الروايات ” ليس لنا مَثَلُ سَوء ، الذي يعود في هِبته كالكلب يرجع في قَيْئِه . (انتهى) .
ويقول فضيلة الشيخ إبراهيم جلهوم، من علماء الأزهر:
من وهب لذي رحم محرم منه لا يكون له حق الرجوع في الهبة، فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة الرجوع في الهبة، ولو كانت بين الإخوة أو الزوجين، إلا إذا كانت هبة الوالد لولده فإن له الرجوع فيها لما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ ﷺ ـ قال: لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه” رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجة، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وهذا أبلغ في الدلالة على التحريم .
فالزوج إذا وهب الحلي لزوجته تبرعا منه محضا خالصا، ولم يشترط عوضا من زوجته ولا إثابة على ما وهب، سقط حقه في الرجوع في هبته، فذلك ما قصده ابن القيم رحمه الله إذ قال: “الواهب الذي لا يحل له الرجوع هو من وهب تبرعا محضا لا لأجل العوض”.(انتهى).
وجاء في “المغني” لابن قدامه :
لا يحل لواهب أن يرجع في هبته ، ولا لمُهْدٍ أن يرجع في هديته ، وإن لم يثب عليها، يعني وإن لم يعوض عنها، إلا الأب .
فأما غيره فليس له الرجوع في هبته ولا هديته . وبهذا قال الشافعي وأبو ثور .
وقال النخعي ، والثوري ، وإسحاق ، والحنفية: من وهب لغير ذي رحم فله الرجوع ، ما لم يثب عليها ، ومن وهب لذي رحم فليس له الرجوع . وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واحتجوا بما روى أبو هريرة ، قال : قال رسول الله ﷺ : { الرجل أحق بهبته ، ما لم يثب منها } . رواه ابن ماجه ، في ” سننه ” وبقول عمر ، ولأنه لم يحصل له عنها عوض ، فجاز له الرجوع فيها ، كالعارية .
ولنا قول النبي ﷺ: { العائد في هبته كالعائد في قيئه} . وفي لفظ : [ كالكلب يعود في قيئه] . وفي رواية (إنه ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) . متفق عليه ، وأيضا قول النبي ﷺ (ليس لأحد أن يعطي عطية ، فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن نبي الله ﷺ قال : (لا يرجع واهب في هبته ، إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . ولأنه واهب لا ولاية له في المال ، فلم يرجع في هبته ، كذي الرحم المحرم .
وأحاديثنا أصح من حديثهم وأولى . وأما قول عمر فقد روي عن ابنه وابن عباس خلافه .
فحصل الاتفاق على أن ما وهبه الإنسان لذوي رحمه المحرم غير ولده ، لا رجوع فيه . وكذلك ما وهب الزوج لامرأته . والخلاف فيما عدا هؤلاء ، فعندنا لا يرجع إلا الوالد ، وعندهم لا يرجع إلا الأجنبي .
فأما هبة المرأة لزوجها ، فعن أحمد فيه روايتان إحداهما لا رجوع لها فيها . وهذا قول عمر بن عبد العزيز ، والنخعي ، وربيعة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي وهو قول عطاء ، وقتادة . والثانية ، لها الرجوع . قال الأثرم ـ صاحب الإمام أحمد ـ: سمعت أحمد يسأل عن المرأة تهب ، ثم ترجع ، فرأيته يجعل النساء غير الرجال . ثم ذكر الحديث (إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام) . وذكر حديث عمر : إن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها شيئا ، ثم أرادت أن تعتصره ، فهي أحق به . وهذا قول شريح والشعبي.(انتهى) .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:
الهبة التي يجوز الرجوع فيها: هي فيما يهبه الوالد لولده عند الجمهور , وفيما يهبه الإنسان إذا لم يوجد مانع من موانع الرجوع في الهبة عند الحنفية، والرجوع في هذا حق ثابت شرعا, لقول النبي ﷺ : { لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة, فيرجع فيها, إلا الوالد بما يعطي ولده }، وهذا ما استدل به الجمهور . واستدل الحنفية بقول النبي ﷺ: { الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها } أي ما لم يعوض . قالوا : والعوض فيما وهب لذي الرحم المحرم هو : صلة الرحم , وقد حصل (انتهى) .
وكذلك في الزوجية، وهو حسن العشرة .
وفيها : ويجوز الرجوع في الهبة قبل القبض عند الجمهور ، فإذا تم القبض فلا رجوع عند الشافعية والحنابلة إلا فيما وهب الوالد لولده , وعند الحنفية يجوز الرجوع إن كانت لأجنبي . أما المالكية فلا رجوع عندهم في الهبة قبل القبض وبعده في الجملة , إلا فيما يهبه الوالد لولده .(انتهى) .