التوبة النصوح ليست كلمة تقال باللسان .. بل يشترط في قبول التوبة أن يقلع صاحبها عن الذنب فورا .. ويندم على ما فات .. ويعزم على أن لا يعود إلى ما تاب منه .. وأن يرد المظالم أو الحقوق إن كانت لأهلها .. وأن تكون التوبة قبل معاينة الموت ..قال تعالى : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً – وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) النساء / 17 -18 .
والله تواب رحيم يدعو أصحاب الذنوب إلى التوبة , ليغفر لهم قال تعالى: ( كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بِجَهَالَةٍ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) الأنعام / 54.
والله رؤوف بالعباد يحب التائبين .. ويقبل توبتهم كما قال سبحانه وتعالى: ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) الشورى/25 .
وقال سبحانه وتعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) البقرة / 222.
ورحمة الله وسعت كل شيء .. فإذا عظمت ذنوب العبد .. وأسرف على نفسه في المعاصي , والآثام , ثم تاب .. فإن الله يتوب عليه .. ويغفر ذنوبه مهما بلغت كما قال سبحانه وتعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) الزمر/53.
وباب التوبة مفتوح للعباد , حتى تطلع الشمس من مغربها , قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم
هل تقبل توبة القاتل:
جاء في كتاب التوبة للشيخ يوسف القرضاوي :
هل هناك ذنوب لا تقبل التوبة منها كالقتل؟
اختلف الناس: هل من الذنوب ذنب لا تقبل توبته أو لا؟
رأي الجمهوري بقبول التوبة إذا صحت:
فقال الجمهور: التوبة تأتي على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل، ولو كان قتل النفس بغير حق.
وقالت طائفة: لا توبة للقاتل.
أدلة القائلين بعدم قبول التوبة من القاتل:
هذا مذهب ابن عَبَّاس المعروف عنه، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقد ناظر ابن عَبَّاس في ذلك أصحابه، فقالوا ” أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان: (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان: 68 – 70)؟ فقال: كانت هذه الآية في الجاهلية، وذلك أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا، فأتوا رسول الله ﷺ، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزل: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) (الفرقان: 68) الآية، فهذه في أولئك.
وأما التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93) فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه، ثم قتل، فجزاءه جهنم، وقال زيد بن ثابت ” لما نزلت التي في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) عجبنا من لينها، فلبثنا سبعة أشهر، ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة “. وأراد بالغليظة: هذه الآية التي في سورة النساء، وباللينة: آية الفرقان، قال ابن عَبَّاس ” آية الفرقان مكية، وآية النساء مدنية، نزلت ولم ينسخها شيء “.
قال هؤلاء: ولأن التوبة من قتل المؤمن عمدًا متعذرة؛ إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله، أو إعادة نفسه – التي فوتها عليه- إلى جسده، إذ التوبة من حق الآدمي، لا تصح إلا بأحدهما، وكلاهما متعذر على القاتل، فكيف تصح توبته من حق آدمي لم يصل إليه، ولم يستحله منه؟.
ولا يرد عليهم هذا في المال إذا مات ربه ولم يوفه إياه، لأنه يتمكن من إيصال نظيره إليه بالصدقة.
قالوا: ولا يرد علينا أن الشرك أعظم من القتل، وتصح التوبة منه؛ فإن ذلك محض حق الله، فالتوبة منه ممكنة، وأما حق الآدمي: فالتوبة موقوفة على أدائه إليه أو استحلاله، وقد تعذر.
أدلة القائلين بقبول التوبة من القاتل:
– حجج الجمهور على قبول التوبة من القاتل:
واحتج الجمهور بقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53) فهذه في حق التائب، وبقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48) فهذه في حق غير التائب، لأنه فرق بين الشرك وما دونه، وعلق المغفرة بالمشيئة، فخصص وعلق، وفي التي قبلها عمم وأطلق.
واحتجوا بقوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه: 82) فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحًا، فإن الله عز وجل غفار له.
قالوا: وقد صح عن النبي ﷺ حديث الذي قتل المائة ثم تاب فنفعته توبته، وألحق بالقرية الصالحة التي خرج إليها، وصح عنه ﷺ – من حديث عبادة بن الصامت رَضيَ الله عنه – أن رسول الله ﷺ قال – وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم،ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فستره الله عليه، فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه… فبايعناه على ذلك)) قالوا: وقد قال ﷺ – فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: ((ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لقيتك بقرابها مغفرة))، وقال ﷺ: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة))، وقال: ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة))، وقال: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)).
وفي حديث الشفاعة: ((أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) وفيه يقول الله تعالى: ((وعزتي وجلالي، لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله)) وأضعاف هذه النصوص كثير، تدل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد (مدارج السالكين: 392/1 – 394). ا.هـ.
وهكذا نرى رأي الجمهور أقوى حجة، وهو الذي يتفق مع رحمة الله الواسعة، ومغفرته التي تسع كل الذنوب.
هل يغفر الله للقاتل يوم القيامة:
واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه، فقتل قصاصًا، هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق؟.
فقالت طائفة: لا يبقى عليه شيء، لأن القصاص حده، والحدود كفارة لأهلها، وقد استوفى ورثة المقتول حق موروثهم، وهم قائمون مقامه في ذلك، فكأنه قد استوفاه بنفسه، إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقه بنفسه أو بنائبه ووكيله.
يوضح هذا: أنه أحد الجنايتين، فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء، كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه، فإنه لا يبقى له عليه شيء.
وقالت طائفة: المقتول قد ظلم، وفاتت عليه نفسه، ولم يستدرك ظلامته. والوارث إنما أدرك ثأر نفسه، وشفاء غيظه، وأي منفعة حصلت للمقتول بذلك؟ وأي ظلامة استوفاها من القاتل؟.
قالوا: فالحقوق في القتل ثلاثة: حق لله، وحق للمقتول، وحق للوارث، فحق الله: لا يزول إلا بالتوبة، وحق الوارث: قد استوفاه بالقتل، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين القصاص، والعفو مجانًا،أو إلى مال، فلو أحله، أو أخذ منه مالا لم يسقط حق المقتول بذلك، فكذلك إذا اقتص منه، لأنه أحد الطرق الثلاثة في استيفاء حقه، فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين؟.
قالوا: ولو قال القتيل: لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة، فقتلوه، أكان يسقط حقه ولم يسقطه؟ فإن قلتم: يسقط، فباطل، لأنه لم يرض بإسقاطه، وإن قلتم: لا يسقط، فكيف تسقطونه إذا اقتص منه، مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه؟.
وهذه حجج كما ترى في القوة، لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها.
شروط توبة القاتل:
فالصواب – والله أعلم – أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعًا إلى الوارث، ليستوفي منه حق موروثه: سقط عنه الحقان، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل: تعويض المقتول، لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته، ولا يعاقب هذا لكمال توبته، وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلمًا في الصف، ثم أسلم وحسن إسلامه، فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه، ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلمًا، فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله.
وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد، فعفا عنه الولي، وتاب القاتل توبة نصوحًا، فالله تعالى يقبل توبته، ويعوض المقتول.
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (النمل: 78، المدارج: 398/1-399).