يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
ما يزعمه بعض الناس أن الغرض الأصلي من العبادة هو تهذيب النفس وتربيتها فإن استطعنا أن نهذب أنفسنا ونربيها بوسيلة أخرى غير العبادة فلا حاجة من العبادة، هذه دعوة خبيثة شريرة يروجها بعض الملحدين المستكبرين عن عبادة الله، فتجد هؤلاء يستغلون ما جاء به الدين نفسه من رد العبادة السطحية المرائية التي لا تنفذ إلى القلب، ولا تزكي النفس، ولا تنهي عن فحشاء أو منكر ـ يستغلون هذا ليقولوا: إن الغرض من الأديان وعقائدها وعباداتها إنما هو إصلاح النفس وتربية الضمير، واستقامة الخلق.. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة بأي وسيلة أخرى كالتهذيب النفسي المجرد، والتربية الأخلاقية المدنية، فلسنا بحاجة إلى العبادة والشعائر والصلوات والمناسك، فإنما هذه وسائل لا غايات، وقد انتهينا إلى الغاية التي يريدها الله منا، فما تشبثنا بالوسيلة وما حاجتنا إليها؟
دعوى تهذيب النفس بغير العبادة:
هذه هي الدعوة الجاحدة الماكرة التي ذهب إليها بعض المتفلسفين قديما وبعض المنحرفين حديثا، وهي دعوة باطلة يراد بها باطل.
أما أنها دعوة باطلة، فلأن العبادة مطلوبة لذاتها، وغاية في نفسها، بل هي ـ كما أوضح القرآن ـ مراد الله من خلق المكلفين إنسا وجنا، بل هي الغاية وراء خلق السموات والأرض قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) وقال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) والمقصود الأول من العبادة ـ كما ذكرنا ـ هو أداء حق الله عز وجل.
المقصود بالعبادة أن يعرف الإنسان نفسه فقيرا لا حول ولا قوة له إلا بربه، ولا اعتماد له إلا عليه، ولا قيام له بذاته، ويعرف ربه عليا كبيرا، غنيا عن العالمين قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز).
إظهار العبودية لرب العالمين، وامتثال أمره سبحانه فيما تعبد به خلقه هو علة العبادات كلها من صلاة وصيام، وزكاة وحج وتلاوة وذكر ودعاء واستغفار واتباع للشريعة، والتزام بأحكام الحلال والحرام، أما صلاح النفس وزكاة الضمير واستقامة الأخلاق، فهي ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وليست غائية لها، لهذا قال تعالى: (اعبدوا ربكم لعلكم تتقون) وقال تعالى:(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
فالتعبير بـ “لعل” هنا التي تفيد الترجي ـ دون التعبير بلام التعليل أو “كي” ـ يفيد أن العبادة أو الصيام تجعلهم على رجاء التقوى وتعدهم لها.
وحتى لو ذكر التعليل صريحا ما أفاد ذلك ترك العبادة إذا لم تؤد إلى التقوى، وإنما تفيد إعادة النظر في العبادة وإحسانها حتى تؤتي أكلها من تقوى الله وخشيته، ولو فرضنا أن قلنا لفلاح: ازرع لتحصد، فزرع ولم يحصد الحصاد المرجو، لتقصيره في بعض ما كان واجبا عليه أن يرعاه، لم يكن معنى ذلك أن نقول له: أترك الزرع والغرس، مع أنه مهمته التي لا وظيفة له غيرها، وكل ما يقال له: ابذل جهدا أكثر، ووف عملك حقه من الإتقان، لتحصل على ثمرة أفضل.
وهذا ما أجاب به الرسول الكريم ﷺ حين ذكروا له قوما يصلون ولكنهم يقومون بأمور لا تليق بمن يقيم الصلاة فقال لهم: إن صلاتهم ستنهاهم!!
ولو أن إنسانا صلى الصلوات الخمس أو صام رمضان مثلا ولم يقصد في ذلك إلا تزكية نفسه، وتربية خلقه، دون الالتفات إلى حق الله عليه، والقيام بواجب العبودية له جل شأنه، ما كانت هذه الصلاة وذاك الصيام إلا عادة من العادات لا يؤبه لها في ميزان الحق، ولا تحظى بذرة من القبول عند الله.
ما هي مقاصد العبادة:
قال الشاطبي ذلك أن للعبادة مقصدا أصليا ومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي فيها هو التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه في كل حال: ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك، ومن المقاصد التابعة للعبادة صلاح النفس، واكتساب الفضيلة.
قال الشاطبي: فالصلاة مثلا، أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه، بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) وقال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) ـ يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله أكبر وأعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله هو المقصود الأصلي ـ وفي الحديث “إن المصلي يناجي ربه.
“ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، كما في الخبر: “أرحنا بها يا بلال” وفي الصحيح “وجعلت قرة عيني في الصلاة”. وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله وفي الحديث: “من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله . ونيل أشرف المنازل قال تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) فأعطى بقيام الليل المقام المحمود”.
“وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله”.
ولا حرج على المؤمن أن يطلب بعبادته الفوائد الأخروية من الفوز بالجنة والنجاة من النار، فإن هذا داخل تحت معنى الرجاء في مثوبة الله، والخشية من عذابه، وهو ضرب من العبودية لرب العالمين، والخوف والرجاء بهذا المعنى لا يقدح في الإخلاص لله.
أما الفوائد الدنيوية فلا يجوز أن تكون الباعث الوحيد للعبادة، سواء كانت مادية أم معنوية.
والخلاصة أن كل دعوة تغفل المقصد الأصلي في العبادات وتهيل تراب النسيان عليه، وتشيد بالمقاصد الفرعية التابعة، وتسلط الأضواء عليها وحدها، هي دعوة باطلة، لأنها تضاد القصد الأول من العبادة، بل القصد الأول من الدين، بل القصد الأول من خلق الناس، بل من خلق السموات والأرض.
الاستكبار عن عبادة الله:
وأما ما وراء هذه الدعوة من أغراض خبيثة، فإن أربابها يبطنون إلحادا وكفرا واستكبارا على الله، واستنكافا عن عبادته، ويخفون ذلك تحت ستار التحمس للأخلاق المجردة، والفضيلة الذاتية، كما يخفي السم الزعاف في الحلو والدسم، فما أجدر هؤلاء بوعيد الله كما جاء في القرآن: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال تعالى:(ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا).
وما أجدر هؤلاء المتكبرين على الله أن يحرموا من نور الهداية إلى الحق، واستبانة طريق الرشد، فإن الكبر يعمي ويصم، وصدق الله: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).
إن الله تعالى ليس في حاجة إلى عبادة أحد من خلقه، فهو سبحانه غني عن العالمين، وعباد الله ليسوا قليلين، فالكون كله يعبد الله بلغة نجهلها نحن البشر (تسبح له السموات والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وحسبنا من العقلاء العابدين الملائكة في السموات السبع وفي كل مكان: (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون) فأين موضع هؤلاء الذين حسبوا أنفسهم كبراء على عبادة الله؟) (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون).
علاقة العبادات بالأخلاق:
خلاصة ما نقوله هنا: أن العبادة عند المؤمن نوع من الأخلاق، لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم، وكلها من مكارم الأخلاق عند الفضلاء من الناس.
ومن أجل ذلك نجد القرآن يعقب على أوصاف المؤمنين القانتين المطيعين لله بمثل هذه الجمل: (أولئك الذين صدقوا) (أولئك هم الصادقون) والصدق فضيلة خلقية خالصة، وإنما استحقوها ـ بل جعلت عليهم ـ لأن أعلى مراتب الصدق، وأثبتها وأبقاها هو الصدق مع الله رب العالمين.
وإذا كانت العبادة عند المؤمن لونا من الأخلاق المحمودة، فالأخلاق عنده لون من العبادة المفروضة.
فهي أخلاق ربانية، باعثها الإيمان بالله، و الرجاء في الآخرة، وغرضها رضوان الله ومثوبته، فهو يصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ويفي بالعهد، ويصبر في البأساء والضراء وحين البأس، ويغيث الملهوف، ويعين الضعيف، ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويرعى الفضيلة في سلوكه، كل ذلك ابتغاء وجه ربه، وطلبا لما عنده تعالى، ونكتفي هنا بما وصف الله به الأبرار من عباده من البذل والرحمة والإيثار، إذ قال: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) ثم يكشف القرآن عن حقيقة بواعثهم، وطوايا نفوسهم، فيقول معبرا عن لسانهم: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).
ثم إن أخلاق المؤمن عبادة من ناحية أخرى، هي أن مقياسه في الفضيلة والرذيلة، ومرجعه فيما يأخذ وما يدع هو أمر الله ونهيه.
فالضمير وحده ليس بمعصوم، وكم من أفراد وجماعات رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال.
والعقل وحده ليس بمأمون، لأنه محدود بالبيئة والظروف، ومتأثر بالأهواء والنزعات، وفي الاختلاف الشاسع للفلاسفة الأخلاقيين في مقياس الحكم الخلقي دليل واضح على ما نقول.
والعرف لا ثبات له ولا عموم، لأنه يتغير من جيل إلى جيل، وفي الجيل الواحد من بلد إلى بلد، وفي البلد الواحد من إقليم إلى إقليم.
لذلك التجأ المؤمن إلى المصدر المعصوم المأمون الذي لا يضل ولا ينسى، ولا يتأثر ولا يجور، وذلك هو حكم الله (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
وخلاصة الخلاصة: أن المؤمن لا يعبد الله ليكون بذلك فاضلا، ولكنه يكون فاضلا ليعبد بذلك الله، وبينها فارق لو يعلمون عظيم.