إن موقف الفقه الإسلامي المعاصر من المعاملات المصرفية السائدة في العالم الحديث والمعاصر، قد كتبت فيه العديد من الدراسات، وصدرت حوله العديد من الفتاوى، الفردية والجماعية.. وهو موقف لا يعمم الحل ولا الحرمة على سائر المعاملات المصرفية، وإنما يميز بين ما هو حلال وما هو حرام في هذه المعاملات.
وأغلب الجدل الذي دار ويدور في ساحة الفقه الإسلامي المعاصر قد انصب على الفوائد البنكية المحددة سلفًا، التي تعطيها المصارف لأصحاب المدخرات، والتي تأخذها من أصحاب القروض..
النظام المصرفي في العالم
ودون دخول في التفاصيل –التي مكانها الدراسات الفقهية المتخصصة- فيحسن –في هذا المقام- التذكير بأصل القضية، للوصول فيها إلى كلمة سواء..
أولاً: إن هذا النظام المصرفي، السائد الآن في العالم المعاصر، هو نظام غربي، نشأ مع النظام الرأسمالي الغربي، في إطار الحضارة المسيحية الغربية.. ولأن المسيحية –كالإسلام- تحرم الربا –الذي هو جوهره: مال يثمر ما لا دون عمل- فلقد تحرج المسيحيون الغربيون من إقامة المصارف الربوية- مع أنها ضرورة من الضرورات اللصيقة بالنظام الرأسمالي –الذي هو في جوهره: تعظيم الرأس المال على حساب العمل-..
ولأن اليهود قد حرفوا موقف اليهودية من الربا، فجعلوه حرامًا فيما بينهم خاصة، وحلالاً مع غيرهم، فلقد تقدموا هم فأقاموا المصارف الربوية، وعملوا بها، واحترفوا صناعتها، وبرعوا فيها.. وظلوا كذلك حتى سادت الفلسفة الوضعية العلمانية النفعية –”البرجماتية”- في المجتمعات الغربية، فتراجعت حاكمية المعايير المسيحية، ودخل المسيحيون الغربيون هذا الميدان مع اليهود، ونافسوهم فيه..
ثانيًا: إن بلادنا الإسلامية، وكل حضارات وأمم الجنوب، لم تعرف هذا النظام المصرفي الربوي إلا عندما جاءنا –مع النظام الرأسمالي- في ركاب الغزوة الاستعمارية الأوربية الحديثة لبلادنا.. ولذلك، يجب التمييز بين قدم الممارسات الربوية، منذ التاريخ القديم والحضارات القديمة، وبين هذا النظام المصرفي المعاصر، الذي نشأ –كنظام سائد وحاكم- مع سيادة الرأسمالية وتحكمها، والذي “تعولم” مع الغزوة الاستعمارية الأوربية الحديثة..
ثالثًا: بسبب من كون النظام المصرفي الربوي هو ثمرة من ثمرات النظام الرأسمالي، وضرورة من ضروراته، ولازمة من لوازمه –للاشتراك في فلسفة تعظيم رأس المال على حساب العمل- كان رفض الاقتصاد الاشتراكي والشيوعي لهذا النظام.. لأن الفلسفة الاشتراكية تعظم العمل بدلاً من رأس المال- على عكس الرأسمالية –ولذلك فهي تمنع الربا، الذي هو: مال يثمر ويجلب مالاً دون عمل..
رابعًا: إن فلسفة الموقف الإسلامي من المال والنقد تتلخص في أنه مقابل عمل أو سلعة أو خدمة أو منفعة، وليس المال والنقد –في ذاته- سلعة تباع وتشترى.. وهذا هو لب الفلسفة الإسلامية التي تحرم التجارة بالنقد، وجعل المال يثمر مالاً بدون عمل.. وفي هذا الموقف تتفق الفلسفة الاشتراكية مع فلسفة الإسلام في النقود والأموال..
خامسًا: إن تركيز كل الجدل الفقهي الإسلامي المعاصر –إزاء المعاملات المصرفية- على تحديد العائد من المدخرات أو عدم تحديده، هو ابتعاد عن جوهر القضية، فقد يكون تحديد العائد تنظيمًا يفيد أصحاب المدخرات، الذين هم الجانب الأضعف في المعادلة الادخارية، ويحميهم من ظلم قائم أو محتمل من أرباب المصارف، الذين يمثلون الجانب الأقوى في هذه المعادلة..
ومطلوب من الفقه الإسلامي أن يركز على جوهر فلسفة الإسلام في النقود والأموال –أي أن تكون الأموال بدلاً لعمل، وليست سلعة يتاجر بها، فتأتي بأموال –فوائد- دون عمل مضاف-.. ولذلك، فإن النظام المصرفي الإسلامي هو النظام الذي يقيم المصارف، لا لتتاجر في المدخرات، وإنما لتوظف هذه المدخرات وتشارك بها في التنمية المجتمعية الشاملة لمختلف الميادين.. فالمصارف الإنتاجية –أي التي تشارك بمدخراتها في التنمية- هي المصارف الإسلامية الحقة، حتى ولو لم تسم نفسها إسلامية.. والمصارف غير الإنتاجية، التي تعمل في إعادة إقراض مدخراتها، وتعيش على الفروق بين عوائد الاقتراض والإقراض –بصرف النظر عن الأسماء التي تطلقها على هذه العمليات- هي مصارف غير إسلامية، حتى ولو سمت نفسها إسلامية..
وفي ضوء هذه الحقيقة نقرأ الفتوى الشهيرة للإمام محمد عبده [1265-1323هـ 1849-1905م] بحل عائد مدخرات “صناديق التوفير”، لأن صناديق التوفير كانت مؤسسة حكومية، تأخذ المدخرات لتبني بها الحكومة مدارس ومصانع ومستشفيات.. فكانت صورة من المصارف الإنتاجية، ولم تكن صورة من مؤسسات التجارة بالنقود والأموال..
سادسًا: إن رؤية المأساة التي وصل إليها النظام الربوي المعاصر، هي الكفيلة بتبيان عظمة العدل الإسلامي المتجسد في فلسفة الإسلام إزاء النقود والأموال.. فالتضخم –الذي يمثل سرطان النظام المالي الرأسمالي العالمي- هو ثمرة من ثمرات جنون التجارة في النقود والأموال.. والمضاربات المجنونة على أسعار الأسهم في البورصات العالمية –وهي التي خربت وتخرب الكثير من التجارب التنموية، وتهدر عرق الأمم وكدح الشعوب- هي واحدة من الثمرات المرة للنظام الربوي، والتجارة في النقود والأموال.. وإذا علمنا أن 97% من رأس المال المالي العالمي –أي 100 تريليون دولار- موظفة في السمسرة والمضاربات- أي في الربا والتجارة في النقود.. وأن 3% فقط من رأس المال المالي العالمي –أي 3.5 تريليون دولار- هي الموظفة في التجارة والصناعة والخدمات.. علمنا أن مأساة الرأسمالية المتوحشة، ونظامها الربوي، أبشع وأفظع من قضية تحديد العائد من المدخرات أو عدم تحديده، تلك التي شغلت وتشغل أطراف الجدل الفقهي حول الموقف الإسلامي من معاملات البنوك..
سابعًا: إذا كان النظام الربوي ثمرة من الثمرات اللصيقة بالنظام الرأسمالي، وجزءًا من فلسفة الرأسمالية إزاء النقود والأموال ور أس المال.. وإذا كان هذا النظام الرأسمالية –على تفاوت في صور حدته ووحشيته- هو السائد الآن في كل أنحاء العالم.. فإننا يجب أن ننظر إلى النظام الربوي نظرتنا إلى “التلوث” الذي عم بلاؤه سائر أرجاء الكوكب الذي عليه نعيش، فلقد أصبح روحًا سارية في كل المعاملات.. ونحن بإزائه أمام ضرورة وبلاء عام، كمثل التلوث الذي أصاب عموم البيئة في عصرنا.. فالتعامل الإسلامي مع هذا الواقع هو التعامل مع الضرورات.. فواجب ألا نزيف ديننا فنقول إن هذا النظام المصرفي الربوي حلال.. وفي ذات الوقت لا نغمض عيوننا عن عناصر الضرورة فيه فنطلب من الناس الامتناع عن التعامل مع هذا الواقع الحاكم لكل الاقتصاديات.. وهنا تأتي قواعد التعامل الإسلامي مع الضرورات، التي تقدر بقدرها، والتي تعامل كضرورات يسعى الناس إلى الخروج من أسبابها وملابساتها وثمراتها، وليس إلى تكريسها بالزعم أنها هي الطبيعية والقاعدة والحلال.. وكذلك تأتي قاعدة تنزيل الحاجة الشديدة والماسة منزلة الضرورة..
وهنا –أيضًا- تأتي أهمية البنوك الإسلامية، التي وإن لم تستطع النجاة من “التلوث الربوي” السائد عالميًا، إلا أن وجودها وأدبياتها تعلن الرفض لقبول وتأبيد هذا النظام..
ثامنًا: إن إدانة النظام المصرفي الربوي فريضة من فرائض الفقه الإسلامي المعاصر.. وإن بعث تراثنا في فلسفة الإسلام إزاء الأموال والنقود –بدءًا بما كتبه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي [450-505هـ 1058-1111م] في كتاب [إحياء علوم الدين] عندما قال: “لقد خلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر الأموال بهما.. خلقهما لتتداولهما الأيدي.. وللتوسل بهما إلى سائر الأشياء.. ولا غرض في أعيانهما.. بل هما وسيلة إلى كل غرض.. وكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم، بل يخالف الغرض المقصود بالحكم، فقد كفر نعمة الله فيهما.. فمن كنزهما فقد ظلمهما، وأبطل الحكمة فيهما.. وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض في عينهما.. وأما من معه نقد، فلو جاز له أن يبيعه بالنقد، فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله، فيبقى النقد مقيدًا عنده، وينزل منزلة المكنوز.. فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودًا للادخار، وهو ظلم.. فكل ما خلق لحكمة فلا ينبغي ان يصرف عنها” –جـ 12 ص 222- – كتاب الصبر والشكر- طبعة دار الشعب – القاهرة -..
إن بعث هذا التراث –منذ الغزالي وحتى الاجتهادات الحديثة والمعاصرة- واجب من واجبات العقل المسلم المعاصر.. لكن هذا شيء، وتحويل فلسفة الإسلام في الأموال إلى نموذج قائم في أرض الواقع شيء آخر.. وإن قيام عشرات –بل ومئات- البنوك الإسلامية لن يغير واقع “التلوث الربوي”، الذي هو جزء عضوي من النظام الرأسمالي الحاكم للعالم بأسره.. وكما اضطرت منظومة البلاد الاشتراكية –قبل انهيارها- إلى التعامل بالربا –في المبادلات العالمية- رغم رفضها له وثورتها على فلسفته.. فستظل البلاد الإسلامية –بما فيها البنوك الإسلامية- مضطرة لاستنشاق هذا “التلوث الربوي”، حتى ولو أطلقت عليه أسماء أخرى!.. وستبقى المفارقة المضحكة في موقف دعاة البنوك الإسلامية المناصرين –في ذات الوقت- للنظام الرأسمالي، دون إدراك أن الرأسمالية هي الأب الشرعي للربا الذي يحاربون!..
السبيل إلى الخروج من الجور المالي العالمي
أما السبيل إلى الخروج من هذا “الجور المالي العالمي”، فهو تحول العالم الإسلامي –بالتكامل الاقتصادي.. والسوق الاقتصادية المشتركة.. والاعتماد المتبادل- إلى كتلة اقتصادية متحدة، وعندئذ يمكن لنا أن نقول للآخرين: إن لنا فلسفة متميزة في النقود والأموال يجب مراعاتها في التعامل معنا.. فالمطلوب أن نتجاوز، نحن المسلمين، النظام الاقتصادي الذي أثمر ويثمر النظام المصرفي الربوي، وأن نكون من القوة بحيث يتعامل معنا الآخرون وفق فلسفتنا في النقود والأموال..
وإذا كان عقلاء الغرب يشكون من الكوارث الدورية للنظام الرأسمالية.. وإذا كان من هؤلاء العقلاء من يلتفت الآن إلى النظام الإسلامي اللاربوي.. فإن الوحدة الاقتصادية للعالم الإسلامي، وتطبيق المسلمين لفلسفة إسلامهم في النقود والأموال، سيلفت أنظار العالم أكثر وأكثر إلى هذا النظام اللاربوي..
نعم.. هو طريق شاق.. وطويل.. لكنه –وحده- هو الطريق.. طريق نهضة المسلمين بالإسلام، وإبلاغ دعوته إلى العالمين، وإزالة الشبهة عن هذه الدعوة، وإقامة حجة الإسلام على العالمين..
أما الاستسلام لطاغوت الرأسمالية المتوحشة، والتسليم بالنظام المصرفي الرأسمالي، الذي عولم “التلوث الربوي” فهو يأس وقنوط من ظهور الإسلام على الدين كله، ومن ظهور الحلول الإسلامية لمشكلات الإنسانية على غيرها من الحلول.. وهو يأس وقنوط لا يليقان بالمؤمنين!..
أما التخندق الفكري حول تحديد أو عدم تحديد سعر العائد من مدخرات البنوك، فهو أشبه ما يكون باحتضان ظل فرع الشجرة بحسبانه الشجرة وما فيها من فروع.. وهو وهم نتمنى أن يبرأ منه أهله، إن شاء الله.