الإسلام لا يضيق ذرعا بالعلم، بل يدعو إليه ويحث على طلبه، لكنه يشترط أن يسخر العلم في خدمة الإنسان، وألا يكون هذا العلم وبالا على الإنسانية تشقى به في الدنيا ، وتعاقب عليه في الآخرة، أما دراسة الآثار التي تترتب على معرفة هذه الخريطة وتطبيقاتها العملية فهذا يحتاج لدراسة متأنية عميقة لكل حالة على حدة.
هل الدين يمنع التطور
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
من فضائل الإسلام: أنه لا يضيق صدرًا بالتقدم العلمي، ولا باستخدام العقل إلى أقصى مدى، والانتهاء إلى ابتكارات جديدة في دنيا العلوم والتكنولوجيا المتطورة، ولم يعرف في تراثنا ولا في تاريخ حضارتنا صراع بين العلم والدين، كما حدث في تاريخ ديانات أخرى، وقف فيها العلم ضد الدين، والنقل معارضًا للعقل، ورجال الدين (أو رجال الكنيسة) في مواجهة رجال العلم والفكر، ولا سيما أصحاب الأفكار والمخترعات الحديثة، الذين نصبت لهم محاكم التفتيش، وحوكموا أحياء وأمواتًا في بعض الأحيان.
بل المقرر في ثقافتنا: إن الدين عندنا علم، وأن العلم عندنا دين، وأن كل علم يحتاج إليه الناس في دينهم أو في دنياهم – ومنه علم الطب والهندسة وغيرهما – يكون تعلمه وإتقانه فرض كفاية على الأمة في مجموعها، بحيث يجب أن يكون فيها عدد كافً من العلماء والخبراء في كل مجال علمي أو تطبيقي، بحيث تكتفي الأمة بأبنائها اكتفاءً ذاتيًا، ولا تفتقر إلى استيراد العلماء من غيرها فيما به قوام معاشها ومعادها.
والقرآن يبين لنا أن الله تعالى قد منح الإنسان من المواهب والطاقات ما يستطيع أن يفتح به مغاليق الطبيعة، ويتعرف على قوانين الكون، ويكتشف المجهول فيها، بحكم استخلافه في الأرض، وتسخير الكون له بسماواته وأرضه، وشمسه وقمره وكوخه.
-لما قال تعالى:” أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ؛وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ” [لقمان: 20]
-وقال تعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [البقرة: 29]
-وقال تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]
-وقال تعالى: ” وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12]
فإذا كان هذا الكون – في نظر القرآن- مسخرًا لمنفعة الإنسان، ولخدمة الإنسان، فلا جناح عليه أن يكتشف من أسراره يومًا بعد يوم ما غاب عنه؛ وخصوصًا الكون الصغير وهو الإنسان، كما قال تعالى: “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” [الذاريات 20،21]
الاكتشافات الحديثة بفضل الله وتيسيرها للإنسان
لا يحسبن أحد من المتدينين أن هذا الاكتشاف فيه تطاول على الله تعالى، أو منازعة له في ملكه، فالحق أن ذلك لم يتم للإنسان إلا بفضل الله تعالى وتيسيره الأسباب للإنسان، والقرآن الكريم يقرر في أول آيات أنزلت منه “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}” [العلق].
كما قال تعالى: “وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” [النحل: 8]
وقد تدخل هذه الاكتشافات فيما وعد الله به في كتابه حين قال: “وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها: [النحل ] وقوله تعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” [فصلت]
ونحن نعلم من ديننا أن العلم بحر عميق زاخر، لا يكاد يرى له ساحل ولا قرار، ومهما يكتشف الإنسان من مجاهيله، سيظل يجهل الكثير والكثير، ولذا قال تعالى: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” [الإسراء]: وقال تعالى لرسوله: “وقل رب زدني علمًا”
وهذا يشمل كل علم نافع، سواء كان من علوم الدين أم من علوم الدنيا.
كل ما يريده الإنسان من العلم إذا اتسعت آفاقه، وتقدمت مواكبه: أن يرتبط بالإيمان والقيم الأخلاقية، ولا يمضي وحده طليق العنان، لا يلتزم بشيء، ولا يقيد بدين أو خلق، أو مصلحة لعموم البشر.
ما هي العلاقة بين الإيمان والعلم
لقد ضرب لنا القرآن مثلين من أمثلة استخدام العلم، ولكنه لم ينفصل عن الإيمان، بل كان العلم في كلتا الحالتين في حضانة الإيمان.
المثل الأول:
في قصة سيدنا سليمان، وكيف استطاع (الذي عنده علم من الكتاب) أن يأتيه بعرش (بلقيس) ملكة سبأ، قبل أن يرتد إليه طرفه، أي في لمح البصر، استطاع هذا الإنسان من ملأ سليمان أن ينقل العرش من اليمن إلى فلسطين في هذه اللحظة من الزمن. ولكن المهم أن سليمان الذي هيئت له هذه الأسباب، لم يركبه الغرور ولا العجب، ولم يفتن بما سخر له، بل قال في أدب المؤمنين: “هذا من فضل ربي، ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر، فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم” [النحل: ]
المثل الثاني:
في قصة ذي القرنين، وقد بنى السد العظيم، ليحجز قبائل يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض، عن أولئك الأقوام المسالمين، “فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا” قال: “هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقًا” [الكهف: ]
ونحن -المسلمين – قد أقمنا حضارة شامخة الذرا، جمعت بين الدين والمدنية أو الإيمان والعلم، وبين السمو الروحي والرقي المادي، وكان العلم عندنا في خدم الإيمان والأخلاق.
العلم والحضارة الغربية
مشكلة الحضارة الغربية: أن العلم فيها نشأ بمعزل عن الدين، بل نشأ مجافيًا للدين، فانطلق ركب العلم غير موصول بالقيم الإيمانية والخلقية، مستبعدًا من تفكيره ومن شعوره ومن سلوكه القيم الأخلاقية، فلا عجب أن وجدنا العلم يستخدم في التدبير والإهلاك للحرث والنسل، على نحو ما قال الله تعالى: “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد” [البقرة: ]
ونحن نرحب بهذا الاكتشاف الجديد الكبير: خريطة الجينات البشرية، أو ما سمى (الجينيوم البشري) الذي اعتبر من أعظم اكتشافات البشرية في عصورها المختلفة، والذي جاء بعد جهود مضنية، وبحوث متطاولة، تعاونت فيها أكثر من دولة غربية، وقالوا: إنه أعظم من اكتشاف البنسلين، ومن صعود الإنسان إلى القمر، ومن .. ومن..
وكل ما نتمناه ، ونرجوه أن يستخدم هذا الاكتشاف في مصلحة البشر، التي يقررها (أولو الألباب) منهم، ولا ريب أن هناك مجالات لا يختلف فيها اثنان في مشروعية استخدام هذا الاكتشاف فيها، مثل علاج (الأمراض الوراثية) عن طريق الجينات المؤثرة، والمسببة لهذه الأمراض، وقفًا للضرر عند الإنسان بقدر الإمكان، ووفقًا للقاعدة الشرعية القطعية، المستمدة من الحديث النبوي، ومن آيات قرآنية كثيرة، وهي قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وكما أن الضرر يزال إذا وقع، فينبغي أن يرفع قبل وقوعه ما أمكن ذلك، والوقاية خير من العلاج. ولقد قال العلماء. درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
ما هو حكم علم الجينات في الإسلام
أحب أن أقول هنا: أننا لا نستطيع أن نفتي في هذا الأمر فتوى مفصلة فيما يجوز وما لا يجوز، لأننا لا نحيط علمًا بحقائق الموضوع، وما يمكن أن نتطرق إليه من مجالات ولا يليق بالعلم الشرعي أن يقحم نفسه فيما لا يحسنه” فلكل علم أهله وخبراؤه، كما قال تعالى: “ولا ينبئك مثل خبير” [فاطر: ] ، “الرحمن فاسأل به خبيرًا” [الفرقان: ] ولكن نجيب في هذا الموضوع بقدر ما نسأل عنه، إذا شرح لنا من أهله شرحًا يبين لنا منه مناط الحكم، فنفتي حينئذ على بصيرة.
وقد جرت عادة المجامع الفقهية في بحث المسائل الطبية أو العلمية أو الاقتصادية: أن يستدعوا بعض الخبراء المعروفين في مجال الطب أو العلم أو الاقتصاد أو غير ذلك، ليسمعوا منهم، ويشرحوا لهم ما غلق عليهم، ثم بعد ذلك يكون الحكم بالجواز أو المنع، أو بالتفصيل.
وكل ما نؤكده هنا ما قلناه من قبل في التحذير من الغلو في استخدام الهندسة الوراثية، أو الاستنساخ البشري، نقوله هنا، راجين من أهل العلم أن ينصتوا لأهل الحكمة ولا يسرفوا في محاولة استخدام هذا العلم في العبث بفطرة الله التي فطر الناس عليها، بدعوى (تحسين سلالة النوع البشري) أو محاولة صنع (إنسان جديد) مثل ما يسمونه (السوبر مان) أو نحو ذلك، فلندع الفطرة تعمل عملها، فإن الخروج على الفطرة كثيرًا ما تكون عواقبه وخيمة.
وقد رأينا ذلك فيما عرف (بجنون البقر) فقد حول الناس -لطمعهم في المكاسب المادية العاجلة -هذا الحيوان الآكل للعشب إلى حيوان يأكل البروتينات الحيوانية في صورة أعلاف مصنعة،ولم يلبث أن ظهر ذلك في صورة مرض جنون البقر.
فيمكن الاستفادة من هذا الاكتشاف في علاج بعض العيوب الخلقية التي قد يتأذى منها بعض الناس، أو التشوهات للجنين في رحم أمه،التي قد تكون مصدر تعب له ولأسرته طوال حياته، أو نحو ذلك مما قد يدخل في باب الضروريات أو الحاجيات للإنسان.
أما استخدام هذا الأمر في الترف الحضاري الذي يسعى إليه أرباب الثراء والسلطان، والذين يريدون أن يتميزوا على الناس في كل شيء: في المال والجمال والذكاء والصحة والقوة وأن يسخروا العلم لذلك، فينبغي أن يكون العلم لخدمة الجميع على حد سواء، بل ينبغي أن يكون أكبر همه مساعدة الضعفاء والفقراء، وبهذا يؤدي العلم ذكاته، ولا يحرم أهله من دعاء هؤلاء المعدمين في الأرض، الذين بهم يرزق الناس وينصرون، فهم عدة الإنتاج في السلم، وعدة النصر في الحرب.