المحقُّقون من العلماء قالوا: إن مدار الحكم على بلدٍ بأنه بلدُ إسلامٍ أو بلد حرب هو الأمن على الدين، حتى لو عاش المسلم في بلد ليس له دين، أو دينه غير دين الإسلام ، فمتى استطاع المسلم أن يمارس شعائر دينه بحريَّةٍ فهو في دار إسلام، بمعنى أنه لا تجب عليه الهجرة منها.
يقول العلامة الدكتور عبد الله بن بيه –نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين-:
إذا كان الإنسان يخاف على نفسه أو دينه أو ماله؛ فلينتقل إلى بلد، ولو كان هذا البلد غير إسلامي، بشرط أن يكون قادراً على إقامة شعائر دينه، وبذلك ينطبق عليه الحديث الذي ذكره ابن حبان في صحيحه (4861) وهو حديث فديك – رضي الله عنه – وكان قد أسلم، وأراد أن يهاجر فطلب منه قومه وهم كفار أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، ففر فديك بعد ذلك إلى النبي – ﷺ – فقال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر، هلَكَ فقال النبي – عليه الصلاة والسلام – حسب الحديث الذي يرويه ابن حبان: “يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت”، وظن الراوي أنه قال: “تكن مهاجراً.
إذاً يجب أن نعي هذه الألفاظ كاملة: (أقم الصلاة)، فمن يريد أن يقيم في دار الكفر فعليه أن يجعل من هذا الحديث دستوراً لحياته،” أقم الصلاة واهجر السوء”، اترك الأعمال السيئة، لا ترتكب الفواحش، ولا تشرب خمراً، وأقم من دار قومك حيث شئت، وحديث ابن حبان رجاله ثقات.
والحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده (1420) وفيه: “البلاد بلاد الله،والعباد عباد الله، وحيثما أصبت خيراً فأقم”، فهذا الحديث أصل في الإقامة في بلاد الكفر لمن يستطيع أن يظهر شعائره.
وبصفة عامة فإن ثلاثة من المذاهب تميل إلى جواز هذه الإقامة، وهي: الشافعية، والحنابلة والأحناف، مع خلاف داخل هذه المذاهب، أما مالك – رحمه الله تعالى – والظاهرية فهؤلاء لا يجيزون الإقامة في دار الكفر،ويعملون بأحاديث أخرى منها: “لا تراءى ناراهما”، رواه أبو داود (2645)، والترمذي(1604) ، والنسائي (4780) من حديث جرير بن عبد الله مع اختلاف في صحة هذه الأحاديث،وفي تأويلها أيضاً. انتهى
المسلم الذي يأمن على نفسه وماله وأهله، ويستطيع إقامة شعائر دينه في بلد من البلدان غير الإسلامية لا تجب عليه الهجرة من هذا البلد.
وأما قوله ﷺ: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”، فقد قال الحافظ ابن حجر: “هذا محمول على من لم يأمن على دينه”.
والوقوف على المناسبة التي ورد فيها النهي في الحديث السابق تؤكد هذا المعنى فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ بعث سارية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأمرهم بنصف العقل، وقال” : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.
والمحقُّقون من العلماء قالوا: إن مدار الحكم على بلدٍ بأنه بلدُ إسلامٍ أو بلد حرب هو الأمن على الدين، حتى لو عاش المسلم في بلد ليس له دين، أو دينه غير دين الإسلام ، فمتى استطاع المسلم أن يمارس شعائر دينه بحريَّةٍ فهو في دار إسلام، بمعنى أنه لا تجب عليه الهجرة منها.
وقد ذكر العلامة الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله-في رسالة عن نظرية الحرب في الإسلام رأيين للفقهاء في دار الإسلام ودار الحرب، ثم اختار رأيَ أبي حنيفة وهو :
أن مدار الحكم هو أمن المسلم، فإن كان آمنًا بوصف كونه مسلمًا فالدار دار إسلام، وإلا فهي دار حرب. وقال: إنه الأقرب إلى معنى الإسلام، ويوافقُ الأصلَ في فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداءِ . أ.هـ
فيجب على المسلمين الذين أصبحوا جزءاً من هذه البلاد أن يكون لهم دور فاعل في مجتمعاتهم وألا يكونوا في عزلة عن المجتمع ، بل عليهم أن يندمجوا في هذه المجتمعات ولكن على حد تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي “اندماج بلا ذوبان”.
فعلى المسلمين الذين يعيشون في غير بلاد الإسلام أن يقوموا بواجبهم نحو أوطانهم ، وأن ينشطوا في نشر دعوة الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإلا فلو هاجر كل مسلم يعيش في بلد غير إسلامي فمن الذي يؤدي فريضة الدعوة إلى الإسلام ويرفع عن المسلمين في مشارق الأرض الإثم والحرج؟.
جاء في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي:
الناس في الهجرة ثلاثة أضرب:
أحدها:من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار،فهذا تجب عليه الهجرة، لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97]. وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة،أو ضعف من النساء والوالدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء:98-99]. ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه، لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي ﷺ مقيماً بمكة مع إسلامه، وروينا: أن نعيم النحام، حين أراد أن يهاجر، جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا، وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم،فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي ﷺ: “قومك كانوا خيراً لك من قومي لي، قومي أخرجوني، وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك”، فقال: يا رسول الله: بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله، وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة،وطاعة الله، أو نحو هذا القول”. انظر: المغني لابن قدامة (10/513) مع الشرح الكبير.