الإنسان المسلم هو إنسان عمل وإنتاج للحياة، يعطيها كما يأخذ منها، ويعد عمارتها هدفًا من أهداف خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، كما قال تعالى على لسان صالح لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، ومعنى (استعمركم) أي طلب إليكم عمارتها، والأصل في الطلب هو الوجوب، والعمارة لا تنافي العبادة، بل هي ـ إذا استقامت على أمر الله، وانضبطت بتعاليم شرعه ـ تصبح عبادة وقربة إلى الله تعالى.
والله تعالى وهب الإنسان العقل، وأهله بالعلم لمنصب الخلافة في الأرض، وفضله بذلك على الملائكة، الذين لم يعلمهم ما علم آدم من الأسماء والخصائص، وإنما آثره بذلك ليستخدم عقله وعلمه في تعمير الأرض، والانتفاع بما سخره الله فيها لمصلحته، دون علو ولا إفساد.
وقد جعل الله الأرض للإنسان مهادًا وفراشًا، وجعل له فيها مستقرًا ومتاعًا إلى حين وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وأودع فيها أسباب المعايش التي تحقق بقاء هذا النوع إلى ما شاء الله، فما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا ورزقه موفور في هذه المعمورة.
ولكن جرت سنة الله ألا ينال رزقه إلا بكدح وسعي، فمن جد وجد، ومن زرع حصد.
يقول الله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور).
فمن مشى في مناكب الأرض الذلول أكل من رزق الله، ومن قعد وتقاعس ـ بلا عذر ـ كان جديرًا ألا يأكل، إلا أخذًا من حق غيره من المشاة العاملين.
والعبادات الشعائرية في الإسلام لا تعطل المسلم عن العمل لدنياه، فهي لا تحتاج إلى تفرغ ولا انقطاع، بل هي دقائق معدودات لكل صلاة من الصلوات اليومية، الموزعة على أوقات اليوم والليلة.
ويوم الجمعة الذي فرضت فيه صلاة أسبوعية على المسلم، ليس يوم انقطاع عن العمل الدنيوي كيوم السبت عند اليهود، بل هو كسائر الأيام، إن شاء المسلم عمل فيه، وإن شاء استراح إن كان لا بد له أن يستريح.
والقرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله).
وبهذا نرى أن المسلم ـ كما يصوره القرآن ـ كان في بيع وشراء وعمل قبل الصلاة حتى إذا سمع النداء، توقف وسعى إلى ذكر الله، فإذا انتهى من الصلاة عاد من جديد يواصل رحلة الكدح في الحياة، منتشرًا في الأرض مبتغيًا من فضل الله.
و(الابتغاء من فضل الله) تعبير قرآني متميز، عن طلب الكسب من التجارة وغيرها، وهو تعبير له إيحاؤه وتأثيره في نفس المسلم.
والقرآن يصف رواد المساجد، العابدين لله تعالى بقوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار).
ليس هؤلاء العباد المخلصون رهبانًا ولا دراويش، بل هم رجال أعمال وأموال، ولكن لم تلههم دنياهم عن آخرتهم، ولم يشغلهم حظ أنفسهم عن حق ربهم.
والمسلم مطالب أن يعمل لدنياه، بما تيسر له من فروع الإنتاج، زراعة أو صناعة أو تجارة، أو رعيًا أو صيدًا، أو استخراجًا لما في الأرض، أو غير ذلك، مما تحتاج إليه الجماعة.
وفي الحديث الصحيح: “ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة” متفق عليه.
بل جاء في حديث آخر: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
ومعنى هذا أن المسلم مطالب بالعمل للحياة إلى أن تلفظ آخر أنفاسها، سواء انتفع بعمله أحد أم لم ينتفع، إنما هو مطالب بالعمل لذات العمل، فهو عبادة، وجهاد مقدس.
وجاء في حديث البخاري: “ما أكل أحد قط طعامًا أفضل من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” رواه البخاري.
ولهذا اختلف الفقهاء والشراح: أي هذه الأعمال أفضل وأبر عند الله تعالى: الزراعة أم الصناعة أم التجارة؟
والذي رجحوه أن الأفضل منها ما اشتدت حاجة الناس إليه، وانشغل الناس عنه… فإذا انصرف الناس عن الزراعة إلى الصناعة أو التجارة، لكثرة مكاسبهم بها، مع مسيس حاجتهم إلى الأقوات والثمار، كانت الزراعة أفضل وأعظم مثوبة عند الله.
وإذا انصرف الناس عن الصناعات والحرف، وأصبحوا فيها عالة على غيرهم من غير المسلمين، كان العمل في هذا الميدان أولى وأعظم أجرًا.
وإذا احتاج الناس إلى التجارة، لانقطاع الطرق، أو لوجود مخاطر شديدة، أو لقلة المكاسب بها، أو لغلبة بعض الأفراد أو الفئات على الأسواق، وتلاعبهم بالأسعار واحتكارهم للسلع والأقوات، تكون التجارة هنا أفضل.