الزنا جريمة منكرة، وذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر المهلكة لفاعلها ، ولعظم الجرم عظمت العقوبة ، قال الله تعالى: (الزّانية والزّاني فاجلِدوا كلَّ واحِد مِنْهما مائةَ جَلدةٍ) (سورة النور: 2) ، وهذا في غير المحصن ( غير المتزوج ). وأما المحصن فحده الرجم بالحجارة حتى الموت ، كما رجم رسول الله ﷺ من ثبت عليه الزنا وهو محصن ( متزوج ) حتى الموت. والزنا لا يقع فجأة بلا مقدمات، بل تسبقه محاولات ومقدمات ، ولذلك حرم الله عز وجل ذلك كله فقال: ( ولا تقربوا الزنا) ولم يقل: ( ولا تزنوا ) فمجرد القرب من الزنا محرم ، وقال النبي ـ ﷺ : ” اجتنبوا السبع الموبقات ” وعد منها : ” الزنا “، وذلك يشمل النظرة واللمس والقبلة والخلوة بين الأجنبيين ، وتبرج المرأة وخضوعها بالقول ، أي تليين الكلام وتكسير الصوت به والقول الفاحش، وخروج المرأة متعطرة ليشم الرجال ريحها، والضرب بالخلجال ونحوة للفت أنظار الرجال… ونحو ذلك.
ولقد جعل النبي صلى الله علبيه وسلم كل مقدمات الزنا زنا ، فقال ﷺ : ” كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ؛ فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرِّجْل زناها الخُطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه “، رواه البخاري ومسلم.وفي رواية لمسلم : ” والفم يزني وزناه القُبل ” ، وظاهر أن المراد بالنظر : هو النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة ، والمراد بالبطش : لمسها ، وفي معنى اليد غيرها ، فكل ملامسة محرمة . وإذا وقع الزنا في الأشهر الحرم كان أشد إثما وأعظم جرما ،
ما هي الأشهر الحرم وما فضلها:
الأشهر الحرم وهي : ذو العقدة، وذو الحجة ،والمحرم ،ورجب. وهي شهور مباركة ،حرم الله تعالى فيها القتال، ويجزل فيها الثواب ويضاعفه لمن عمل صالحًا؛ وخاصة شهر الله المحرم ، كما يضاعف الله تعالى العقاب لمن انتهك حرمتها بذنب يعمله ، فهذه الأشهر تمتاز عن غيرها بأن المعصية فيها أشد عقاباً، والطاعة فيها أكثر ثواباً ، وكانت هذه الأشهر معظمة في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمر ذلك التعظيم عند العرب حتى جاء الإسلام فأقره القرآن الكريم، قال الله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) التوبة: 36.وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : ” إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان .
وقوله: ” ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي ﷺ: ” الذي بين جمادى وشعبان” تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر. وقد صرح بعض أهل العلم بمضاعفة الثواب والعقاب في هذه الأشهر، استناداً للآية السابقة ، وذكر بعض المفسرين أن هذه الأشهر سميت حرماً لزيادة حرمتها ولتحريم القتال فيها .
هل الذنوب تضاعف عقوبتها في الأشهر الحرم:
كما ذكر غير واحد من المفسرين أن الذنوب تعظم وتضـاعف عقوبتها بعظم الزمان والمكان: قال الإمام الرازي: عند قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة: 36 :ومعنى الحرم: أن المعصية فيها أشد عقاباً، والطاعة فيها أكثر ثواباً، والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له. فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السبب في هذا التمييز؟ قلنا: إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة، ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة…). التفسير الكبير المجلد 6، صفحة (41-42) .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحج:25. وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عن قتادة قوله: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) الأحزاب:30، انتهى كلام القرطبي.
فالمعصية في الأشهر الحرم أعظم من المعصية في غيرها . وأما كفارته: فكفارة الزنا كغيره من المعاصي: التوبة إلى الله تعالى، ولا تتحقق التوبة إلا بالندم على فعل المعصية والترك لها، والعزم على عدم العودة إليها، مع استغفار الله تعالى ، والأولى في حق من ستره الله أن يستتر بستر الله عليه ولا يفضح نفسه.
فقد حقق المحققون أن التوبة من الزنا تكون بين المرء وخالقه تعالى ، فإذا تاب وأناب وندم واستغفر، فالمرجو أن يعفر الله له ويعفو عنه، ومن تاب تاب الله عليه، ويقبل منه ما يقدم من عمل صالح، بل قد يبدل سيئاته حسنات، فقد قال تعالى: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان : 68-70.
و قال ابن حجر في فتح الباري: وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. فعلى من أتى جريمة الزنا في الأشهر الحرم أو غيرها أن يسارع بالتوبة إلى الله عنها، ويندم ويستغفر الله عز وجل، ويعزم عزمًا صادقًًا على ألا يعود لمثل هذا الذنب أبدًًا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.