أمور الآخرة من عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية ، وإنما يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً ؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث والحساب ، والجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا أنها ممكنة ، والنشأة الآخرة تكون في عالم أكبر من هذا العالم ، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها ؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
إن علم الكيمياء قد قرب بارتقائه مسألة حشر الأجساد من العقل ، وأدناها من التصور حتى صرنا نبحث في كيفيتها بحثًا علميًّا .
على أن أمور الآخرة من عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية ، وإنما يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً ؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث ، ولا عن كيفية الحساب ، ولا عن كيفية الجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا أنها ممكنة .
أما الشبهة التي تصور البعث بالروح والجسم معًا محالاً فهي واردة على أقوال بعض العلماء أو أكثرهم ؛ إذ زعموا أن البعث إنما يكون بالجسم الذي عمل به الإنسان أعماله التي يجازى عليها .
ولم يرد هذا القول في النصوص الإلهية ؛ وإنما هو شيء استنبطوه بأقيستهم ، وفلسفتهم النظرية ؛ إذ قالوا : لا يجوز أن يقع الجزاء إلا على الجسم الذي تلبس بالعمل لئلا يكون الجزاء على غير العامل .
ويا ليت شعري ! ماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أثبته العلم حديثًا من تبدل مادة جسم الإنسان في كل بضع سنين مرة ؟ ! بمعنى أن الأجسام التي نعيش بها اليوم ليست عين الأجسام التي كانت لنا قبل هذه المدة .
أيقولون فيمن ارتكب ما يوجب الحد وغاب مدة يثبت العلم أنه قد تحلل فيها كل جسمه الذي زاول به ذلك العمل السيء أنه لا حد عليه ، ولا جزاء ؛ لأن الجسم الذي عمل قد ذهب وحل محله جسم آخر ؟ إن الدين قد أثبت أن للناس حياة أخرى بعد هذه الحياة ، وإنما الناس خلق مركب من جسد وروح ؛ وسيكونون في الحياة الثانية ناسًا كما كانوا في الحياة الأولى ؛ إلا أن تلك الحياة أرقى من هذه الحياة للراقين ، وأسفل منها للمتسفلين .
فمن عرف ما هو الإنسان بحسب العلم الحديث سهل عليه أن يقبل هذا الاعتقاد ؛ لأنه يعلم أن الحياة صفة لازمة للروح وأن ظهور الأرواح في الصور المادية هو الذي يعطي المادة الحياة ، وبهذه الحياة تأخذ من عناصر الطبيعة ما يكون ممدًّا للجسم الذي تظهر فيه , وعوضًا عما يتحلل منه ويندثر كل آن ، وبها يكون الجديد كالقديم في وضعه ، وصفاته الصورية والمعنوية بحيث لا يكون الإنسان المعين بتحلل جسمه الأول وحدوث جسم جديد له إنسانًا آخر .
وإذا فهمنا هذا نفهم أنه لا يشترط في تحقق الحياة الثانية أن تكون مادة الجسم هناك عين مادته هنا مادة ثابتة مستقرة بذاتها وعينها ، وإنما هي مواد معينة بالتعيين النوعي دون الشخصي ؛ فالعناصر البسيطة لا تشخص في أجزائها ما يميز جزءًا عن جزء ، وإنما هي كالثياب تتجدد على كل حي ويبق هو هو [ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ]( الواقعة : 61 ) .
والقول بأن كل جزء من أجزاء العناصر دخل في بدن إنسان لا بد أن يعود بعينه في الآخرة إليه فلسفة باطلة ، وهو محال كما قال محدث السائل ؛ لأن هذه الأجزاء كما دخلت في بدن زيد دخلت في أبدان الألوف وألوف الألوف من الناس والحيوان والنبات ؛ ولأن هذا القول يقتضي أن يكون كل شخص في الآخرة كبير الجرم جدًّا إلى درجة لم تخطر على بال أحد ، حتى الذين قالوا: إن طول الإنسان في الجنة يكون ستين ذراعًا .
ولا يقال : إن مادة الأرض لا تكفي لأجسام جميع من عاشوا عليها إذا عادوا كلهم أحياء في ذلك اليوم الآخر ؛ لأن الحياة الأخرى ليست على هذه الأرض وإنما تكون [ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات ]( إبراهيم : 48 ) وإنما يكون خراب العالم باصطدام الأرض بأحد الأجرام السماوية ، ثم بانتثار الكواكب ورجوعها هباء ( أو سديمًا ) كما كانت قبل هذا التكوين [ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساّ ]( الواقعة : 4-5 ) أي : تفتت [ فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ ]( الواقعة: 6 ) ، [ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ]( الانفطار : 1-2 ) وفي معنى هذه الآيات آيات كثيرة فالنشأة الآخرة تكون في كوكب أو عالم أكبر من هذا العالم ، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها ؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته .