اعترف الإسلام بالتفاوت الفطري المعقول في الأرزاق بين الناس؛ إذ قبل ذلك ثبت تفاوتهم الفطري في الملكات والقدرات والمواهب والعمل والنشاط.
-والإسلام – باعتباره دينًا يعترف بالفطرة، ويسمو بها ولا يصادمها – اعترف بالملكية الفردية الناشئة عن سبب مشروع، ليشبع بذلك الفطرة البشرية، والدوافع الفطرية، في حب التملك والتنافس والادخار.
-والإسلام لا يحترم الملكية الفردية إذا نشأت عن سبب غير مشروع كالغصب أو السرقة الجلية أو الخفية كالرشوة والهدايا للحكام، واستغلال النفوذ ونحوها.. ويصادر هذه الملكيات، وإن طال عليها الزمن، واختلف الليل والنهار، فطول الزمن لا يبيح المحظور، ولا يقلب الحرام حلالًا.
-والإنسان في الإسلام ليس مالكًا حقيقيًا يتصرف في ماله كيف شاء. كلا، فالمال مال الله، ومقتضى هذه العبارة: أنه مال الجماعة، والغني موظف على رعايته وتنميته وإنفاقه بما يوافق صالح الجماعة، أو بتعبير القرآن هو “مستخلف” على المال قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد: 7)، وقال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33).
-فالملكية إذن وظيفة اجتماعية، والغني إذن مطالب بواجبات إزاء مجتمعه، أدناها الزكاة.
-وبيت المال الذي تجمع فيه الزكاة وغيرها ليس ملكًا للخليفة أو الأمير وإنما هو خازن أمين، ليس له منه إلا راتبه كما قال أبو بكر: “أعطوني كأوسط رجل من قريش ليس بأدناهم ولا أعلاهم”.
وقال عمر أكثر من ذلك: “إنما أنا وهذا المال كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف”.
وأبى علىّ بن أبي طالب أن يأخذ من بيت المال شيئًا.. وانحرافات البعض ليست حجة على الإسلام، وقد اعترفوا بذلك هم أنفسهم، فنجد خليفة كمعاوية يقول: “أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرًا لبطن”.
تقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء؟
اعتراف الإسلام بالتفاوت الطبيعي في الرزق ليس معناه أن يدع الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقرًا، بل تدخل بتشريعه القانوني، ووصاياه الخلقية، لتقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء، فحد من طغيان أولئك، ورفع من مستوى هؤلاء.
-حرم على الأغنياء الكسب بالباطل، وكذلك تنمية ما كسبوه بالباطل وحظر عليهم الربا قليلة وكثيرة، جلية وخفية، واعتبر آكل الربا محاربًا لله ورسوله.
-وحرم عليهم الاحتكار، وعلى هاتين الساقين – الاحتكار والربا – تقوم الرأسمالية.
-وحرم عليهم السرف والتبذير دينًا وقضاء، وجعل للحاكم سلطة الحجر على المبذرين السفهاء.
-وحرم عليهم كل ألوان الترف الذي يفسد الأفراد والأمم، مثل الخمر وأواني الذهب والفضة في الطعام والشراب، والتحف والتماثيل الفضية والذهبية، ومفارش الديباج والحرير الطبيعي وغيرها من ألوان الترف والتنعم، ولبس الذهب والحرير للرجال.
-وحرم عليهم الكنز قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ) (التوبة: 34).
-والزكاة محاربة عملية لكل مال يكنز، إذ يخرج منه كل عام 2.5%، فإن لم يعمل ويستثمر استهلكته الزكاة بجوار النفقة.
وفي الجانب الآخر، أتاح الإسلام الفرص المتكافئة للفقراء، ليقفوا على قدم المساواة مع الأغنياء، فباب العمل والكسب مفتوح للجميع، ومن لم يجد عملًا هيأ له ولي الأمر عملًا، فإن لم ييسر له العمل، أو كان عاجزًا عن العمل، أو كان أجره من عمله لا يكفيه، كان واجبًا على ولى الأمر أن يرعاه، ويهيئ له ما هو حق لكل مسلم أو ذمي في ظل الإسلام من مأكل ومشرب، وملبس للصيف، وملبس للشتاء، ومسكن يكنه ويؤويه، كما قرر فقهاء الإسلام.
وللحاكم إذا لم تكف الزكاة والموارد العادية لسد هذه الحاجات، أن يفرض على أغنياء المسلمين ما يقوم بمصالح فقرائهم، وقد قرر علماء المسلمين هذا المبدأ: “إذا احتاج المسلمون فلا مال لأحد”.
ومن الناحية النفسية والقانونية، فليس لغني أي امتياز على فقير، وإنما كلهم أمام القانون وأمام الله سواسية كأسنان المشط.
وقد اتخذ الإسلام طرقًا مثمرة في تفتيت الثروات، أبرزها تشريع الميراث، الذي يوزع ثروة الرجل الواحد بين زوجته وأبويه وأولاده جميعًا، ذكورًا وإناثًا، لا للذكور فقط كما كان يفعل العرب في الجاهلية، ولا الابن الأكبر كما تصنع بعض الدول كالإنجليز.
وبهذا نرى أن الاقتصاد الإسلامي – مع إقراره التفاضل في الأرزاق – يرى من العدل تقريب الفوارق بين أبناء مجتمعه، تحقيقًا للتوازن، وإطفاء لنيران الحسد والبغضاء، وتفاديًا لأسباب الصراع والصدام بين الأفراد والطبقات.
ووسيلة الإسلام في ذلك – كما رأينا – هي: العمل على رفع مستوى الفقير، إلى جانب الحد من طغيان الغني.
فهو لا يكتفي بكفالة العيش للمعدمين والمحتاجين عن طريق معونات دورية يتقاضونها، بل يعمل على تمليكهم ما يكفيهم ويغنيهم: من قطعة أرض أو متجر أو أدوات حرفة.. الخ.
وهذا ما قرره علماؤنا منذ قرون، وخصوصًا الشافعية منهم، فذكروا في قدر ما يعطاه الفقير والمسكين من الزكاة، هذه العبارات الجلية، قالوا:
“يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام.. فمن كان عادته الاحتراف، أعطى ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يغني بكفايته غالبًا تقريبًا.
ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص.. قالوا:
-فمن كان حرفته بيع الجواهر يعطى عشرة آلاف درهم مثلًا، إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها.
-ومن كان تاجرًا أو خبازًا أو صرافًا أعطى بنسبة ذلك.
-ومن كان خياطًا أو نجارًا أو قصابًا، أو غيرهم من أهل الصنائع أعطى ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله.
-“وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام.
-قالوا: فإن لم يكن محترفًا ولا يحسن صنعة أصلًا ولا تجارة ولا شيئًا من أنواع الكسب، أعطى كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده، ومثلوا لذلك: أنه يعطى ما يشتري به عقارًا يستغل منه كفايته” (المجموع للنووي: 194/6، 195).
وهذا يتفق مع السياسة العمرية الراشدة في توزيع أموال الزكاة إذا اتسعت حصيلتها، وذلك حين قال لعمال الزكاة والولاة على الصدقات: “إذا أعطيتم فأغنوا”.
وقال رضي الله عنه معلنًا عن نهجه في الإعطاء: “لأكررن عليهم الصدقة، وإن راح على أحدهم مائة من الإبل” (فقه الزكاة: 607/2) (ومائة من الإبل تساوي عشرين نصابًا من أنصبة الزكاة).
ولقد قلنا: إن التملك – مع إشباعه لدافع الفطرة – دليل الحرية والسيادة وسبب للشعور بالقوة، والإحساس بالنعمة. فمن العدل إذن أن ينعم بهذا التملك أكبر عدد مستطاع من الناس.
-لهذا المعنى كره الإسلام أن تقتصر نعمة التملك والغنى على طائفة قليلة من المجتمع والأكثرون يعيشون في سعير الفقر ومرارة الحرمان.
-ولهذا المعنى نفسه عمل التشريع الإسلامي على تفتيت الملكيات – وبخاصة الكبيرة منها – ونقلها من يد واحدة إلى جملة أيد.
كيف حقق الإسلام التكافل في رعاية المحتاجين؟
ذلك بوسائل شتى من الميراث والوصية الواجبة والمندوبة، ونفقات الأقارب، والزكاة المفروضة، والحقوق الأخرى التي تجب في المال حسب الحاجات، فضلًا عن حق الحاكم العادل في التدخل لإصلاح الفساد وإقامة العدل، وإعادة التوازن، ومحاربة الفقر، وإشاعة التكافل بين الناس، على نحو ما قال عمر: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها على فقراء المهاجرين” (ذكر ذلك ابن حزم من طريق عبد الرحمن بن مهدي إلى عمر وقال: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة: 158/6، المحلي، المطبعة المنيرية بتحقيق الشيخ أحمد شاكر).
-ولهذا المعنى أيضًا اتجه النبي ﷺ إلى توزيع الأموال التي أفاءها الله عليه من يهود بني النضير على المهاجرين خاصة، دن الأنصار إلا رجلين منهم هما سهل بن حنيف وأبو دجانة، ذكرا فقرًا فأعطاهما (الخراج ليحيي بن آدم ص 34، طبعة السلفية – سنة 1347هـ)، وهي التي جاء فيها قوله تعالى من سورة الحشر: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ (أي من بني النضير) فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) (الحشر: 6).. الآية.
قال ابن شهاب الزهري: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله ﷺ خالصة، فقسمها رسول الله ﷺ بين المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار منها شيئًا إلا رجلين كانا فقيرين: سماك بن خرشة (أبا دجانة)، وسهل بن حنيف (رواه يحي بن آدم في الخراج ص 33، فقرة (79)، وقال العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في التعليق: هذا الحديث مرسل، وقد رواه البخاري ومسلم عن مالك ابن أوس بن الحدثان وليس فيه إعطاء الرجلين من الأنصار، بل هو مذكور في سيرة ابن هشام بدون إسناد، وهي قصة طويلة سيذكرها المؤلف برقم (81، 86، 87)، ورواها ابن سعد في الطبقات: 2/3-40، قال: فأخبرنا الفضل بن وكيد قال: حدث ابن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: لم يعط رسول الله ﷺ من أموال بني النضير أحدًا من الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة، وكانا فقيرين، وروى البلاذري (26) الموصول والمرسل).
وقد روى أن رسول الله ﷺ قال للأنصار: -“إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه وأموالكم بينكم وبينهم جميعًا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم، وقسمت هذه بينهم خاصة”، فقال الأنصار رضى الله عنهم: لا بل تقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت (الخراج ليحيي بن آدم)