تكلم فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في هذه المسألة فأفاض في كتابه القيم الذي ننصح بقراءته وهو كتاب الفتوى بين الانضباط والتسيب ونلخص ما قاله في هذه المسألة ومن أرد المزيد فيمكنه مراجعة ما كتبه في هذا الكتاب .
الفتوى في العصر الحديث
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي – حفظه الله-:
لقد شهد عصرنا نهضة علمية واسعة في مجال الدراسات الإسلامية، وقامت جامعات ومعاهد ومؤسسات لتدريس العلوم الدينية الإسلامية في مناطق كثيرة من بلاد العرب والإسلام، وذاب جليد الركود الذي ساد الفكر الإسلامي طول عصور التخلف تحت حرارة المواجهة مع العصر والواقع، وبرز صراع مرير بين القديم والجديد، تمخض عن فئات ثلاث من الناس:
1ـ فئة تشبثت بالقديم كله، على ما فيه من شوائب وانحرافات.
2ـ وفئة تبنت الجديد كله، بما فيه من نقائص وسيئات.
3ـ وفئة وقفت موقف الوسط، وقالت: نتمسك بكل قديم نافع، ونرحب بكل جديد صالح.
وفي وسط هذه الدوامة من صراع الأفكار، وتدافع التيارات، كان لابد من أن تتأثر الفتوى والمتصدون لها بهذا الواقع. فالإنسان ـ شاء أم أبى ـ لا يستطيع أن ينفصل عن مكانه وزمانه، وبعبارة أخرى: عن بيئته وعصره، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمفتون في أي عصر معرضون للخطأ بحكم بشريتهم، وعدم ضمان العصمة لهم، ولكن المؤثرات الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية في عصرنا أشد منها في أي عصر مضى.
وبهذا كان لزاما علينا أن ننبه على المزالق الخطرة، أو الأسباب البارزة، التي تفضي بالمتصدين للفتوى، والمتحدثين باسم الشريعة، إلى أخطاء مؤكدة، وانحرافات جسيمة، ربما يترتب عليها تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، أو إسقاط ما أوجب الله أو إلزام ما لم يلزم به كله، أو تشريع ما لم يأذن به الله، أو تكذيب ما أخبر به الله.
ما هي مزالق المتصدين للفتوى في العصر الحديث
1ـ الجهل بالنصوص أو الغفلة عنها:
ومما يعرض المفتي للخطأ: الغفلة عن النصوص الشرعية أو الجهل بها، وعدم الإحاطة بها وتقديرها حق قدرها، وخصوصا إذا كان من يتعرض للفتوى من الجرآء المتعجلين، كالذين يريدون أن يملئوا أنهار الصحف أوالمجلات بأي شيء، دون أن يجشم نفسه عناء الرجوع إلى المصادر، والبحث عن الأدلة في مظانها، ومراجعة الثقات من أهل العلم.
وأكثر ما تقع الغفلة عنه هنا هو: نصوص السنة، فقد فشا الجهل بها في هذا العصر فشوا مخيفا، حتى أن بعضهم ليفتي بما يناقض أحاديث الصحيحين أو أحدهما مناقضة صريحة بينة، لأن حضرته لم يقرأ هذه الأحاديث ولم يسمعها فجعل جهله حجة على دين الله.
2ـ سوء التأويل:
وقد لا يأتي الخطأ من عدم استحضار النص، ولكن من سوء تأويله،وفهمه على غير وجهه، اتباعا لشهوة، أو إرضاء لنزوة، أو حبا لدنيا، أو تقليدا أعمى للآخرين.
وسوء الفهم أو سوء التأويل، آفة قديمة منيت بها النصوص الدينية، والكتب المقدسة، وهو أحد الوجهين فيما وصم به القرآن أهل الكتاب من “تحريف الكلم عن مواضعه” .
فليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي،والأول هو التحريف اللفظي.
ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة في شأن من لم يحكم بما أنزل الله، وهوقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).
قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا ـ معشر المسلمين ـ وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة.
ومقتضى هذا ـ في زعمه ـ أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق. وأما من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين فليس كافرا ولا ظالما ولا فاسقا!
وهذا والله مما لا ينقضي منه العجب!
3ـ عدم فهم الواقع على حقيقته:
ومن أسباب الخطأ في الفتوى عدم فهم الواقع لدى البعض فهما صحيحا، ويترتب على ذلك الخطأ في “التكييف”، أعني في تطبيق النص الشرعي على الواقعة العملية.
ومن الناس من يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، وأعمال البنوك،والأسهم والسندات، وأصناف الشركات، فيحرم أو يحلل، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرا،ويدرسها جيدا.
ومهما يكن علمه بالنصوص، ومعرفته بالأدلة،فإن هذا لا يغني ما لم يؤيد ذلك بمعرفة الواقع المسئول عنه، وفهمه على حقيقته.
4ـ الخضوع للأهواء:
ومن أشد المزالق خطرا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه،سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم.
ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق.
هذا مع تحذير الله تعالى أشد التحذير من اتباع الهوى، يقول الله تعالى لرسوله في سورة الجاثية من القرآن المكي: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين، هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون).
وفي سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن المدني ـ يخاطب رسوله أيضا بقوله سبحانه (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)
كما خاطب الله نبيه داود فقال: (يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)
5ـ الخضوع للواقع المنحرف:
ومن المزالق التي تزل فيها أقدام المفتين في عصرنا: الخضوع لضغط الواقع الماثل بما فيه من انحراف عن الإسلام، وتحد لأحكامه وتعاليمه.
ومن المعلوم أن هذا الواقع إنما صنعه الاستعمار الغربي أيام سطوته وسيطرته على بلاد المسلمين ومقدراتهم الثقافية والاجتماعية وغيرها، ثم استمر بل نما على أيدي عملائه وتلامذته من بعده، ممن تخرجوا على يديه، وصنعوا على عينيه.
ولا ريب أن كثيرا من الناس، ممن يتصدون للحديث عن الإسلام وأحكامه يعانون هزيمة روحية أمام هذا الواقع، ويشعرون بالضعف البالغ أمام ضغطه القوي المتتابع.
فلا عجب أن تأتي أحاديثهم وفتاويهم “تبريرا” لهذا الواقع المنحرف، وتسويغا لأباطيله، بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من برهان.
6- تقليد الفكر الغربي:
ومن الأسباب الجوهرية وراء انحراف الكثير من الفتاوى في عصرنا: التقليد أو التبعية ـ وإن شئت قلت: العبودية ـ للفكر الغربي، وللحضارة الغربية.
إن نفرا من قومنا يعانون ما يسمونه “عقدة النقص” تجاه الغرب وحضارته وفكره، ويعتبرون الغرب إماما يجب أن يتبع، ومثالا يجب أن يحتذى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفا للغرب، اعتبروا ذلك عيبا في حضارتنا، ونقصا في شريعتنا، ما عليه الغرب إذن هو الصواب، وما يخالفه هو الخطأ!
7- الجمود على الفتاوى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة
ومن مزالق الفتوى: الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أوكتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر.
وهذا من أهم الملاحظات التي يغفل عنها الكثيرون، مع أن المحققين من علمائنا رحمهم الله ـ نبهوا عليها، وأكدوا أهميتها.
ولعل أبرزهم في هذا المجال هو الإمام المحقق ابن القيم الجوزية، الذي أفرد لذلك فصلا ممتعا في كتابه الفريد “إعلام الموقعين عن ربالعالمين” ويقصد بالموقعين عن رب العالمين، أهل الفتوى، لأنهم إذا قصدوا لبيان حكم شرعي في قضية، فكأنهم يوقعون عن الله تعالى في شأنها، كالموكل بالتوقيع نيابة عن الأمير أو السلطان.
وقد أصبحت كلمات ابن القيم في مطلع هذا الفصل من كتابه، منارا يهتدي به السائرون، ونوه بها المصلحون المعاصرون، وكل من حاول الإسهام في تجديد الفقه الإسلامي، وإحياء العمل بالشريعة الإسلامية.
يقول العلامة ابن القيم:
هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها،وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل،فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﷺ أتم دلالة وأصدقها .