الوجودية: مذهب أو اتجاه فكري يُعْنَى بالبحث في الوجود الإنساني. ويصورها “ريجيس جوليفييه” في كتابه “مذاهب الوجودية” بأنها: اعتقاد أن أساس وجود الإنسان هو ما يفعله، بمعنى أن أفعاله هي التي تُجَدِّد وجوده، كما قال سارتر: أنا موجود فأنا أفكر، على عكس ما قال ديكارت: أنا أفكر فأنا موجود.
إن هذا المذهب ليس جديدًا، فقد اهتم به كثيرون من الفلاسفة والأدباء والمتصوفين وغيرهم من قديم الزمان، وإن كان أبرزهم حديثًا هو “كيركجارد” الدانمركي المتوفى سنة 1855م، وآخرهم “جان بول سارتر” الفرنسي المولود في 21 من يونية سنة 1905م والمتوفَّى في يوم الثلاثاء 15 من أبريل 1980م.
وبعض المُعْتَنِقِين لهذا المذهب يؤمنون بوجود الله الذي خلق الإنسان، لكن يَرَوْنَ أنه رمَى به في تِيه يعيش فيه بين الألم والخوف والقلَق. ومن هؤلاء: كيركجارد، جبرييل مارسيل. وبعضهم لا يؤمنون بأن الله خلق الإنسان، بل هو الذي خلق نفسه بنفسه، وذلك لعدَم اليقين بمصدر وجوده الحقيقي، ومنهم: هيدجر، سارتر.

والذين درسوا تاريخ هؤلاء تبيَّن لهم أن ظروف حياتهم هي التي أملت عليهم هذا الاتجاه في التفكير، فقد كان “كير كجارد” منطويًا على نفسه منعزلًا، ولذلك حلَّل الوجود البشري تحليلاً يعيش في جو الحصر النفسي والتمزق الداخلي والشعور بالخطيئة، وكذلك “سارتر” حيث اهتم اهتمامًا كبيرًا بفكرة العدم باعتباره داخلًا في نسيج، فالفرد عنده يعيش في مواقف تتصف بالتميُّع، ويحاول أن يتخطى حدود نفسه ويخدعها، ومن أجل أن وجوده مرتبط بوجود الآخرين يرى تصارُع إراداتهم مع إرادته في جوٍّ كله غَثَيَان، والفرد يسعى جاهدًا إلى تحقيق رغباته لكن ذلك غير ممكن؛ لأن إمكاناته لا تُسعِفه.

يمكن أن نُحدِّد أهم الصفات الممَيِّزة للوجوديين فيما يلي:
1ـ الإيمان بأن التجربة الفردية هي أساس المعرفة، وليس العقل أو غيره موصلاً إلى معرفة الحقيقة.

2ـ الإغراق في تقديس الحرية الشخصية فكرًا وسلوكًا، وعدم الاهتمام بالآخرين بقدر الاهتمام بالنفس، ولذلك كثُر فيهم الشذوذ والتطرُّف والآراء الغربية، والإنسان هو صانع وجوده بنفسه؛ لأنه رب أفعاله.

3ـ التشاؤم والقلق والتمزق، فالوجودي يحاول أن يخلَع نفسه من نفسه ليعيش نفسًا أخرى؛ لأنه إما أن يكون قد قُذِف به في الكون وتُرِك مع الطوفان بلا مدد أو وقاية، كما يقول الملحدون، وإما أن يكون الله قد ترك له حرية الاختيار، وإن كان الاختيار نفسه محدودًا بحواجز خارجة عن إرادته وهو يشعر بها عند الفشل والمقاومة، فالوجود عندهم يتأرجح دائمًا بين الوجود والعدم، أو بين الاختيار والجبر.

وهي تُجَرِّد الإنسان من كل ثقة في الحياة، وتَهْدِم كل أساس ينطلق منه العمل. يقول “هيدجر”: إننا قد أُلْقِي بنا إلى هذا العالم ولست أعرف لماذا ولا كيف، والشيء الوحيد الذي أعرفه حق المعرفة هو أنني سأموت يومًا من الأيام. فالإنسان مستقبله محدود ومُتَناهٍ، وأنا أعرف ذلك.

إن لهم تعبيرات غريبة عن التجربة الفردية التي يعيشونها.

يقول عنها “كارل ياسبرز”: إنها الإحساس بمدى هشاشة الوجود الإنساني، ويقول عنها “هيدجر”: هي المُضِي نحو الموت، ويقول عنها “سارتر”: الإحساس بالغثيان والتقزز، بل إن كثيرًا منتهم لا يرضى أن يُقال عنه: إنه فيلسوف، وإنما يُقال: كاتب أو أديب؛ لأن الفيلسوف الوجودي يقصر بحثه على الوجود الخاص به، وهو يرى أن فلسفة البحث عن الوجود هي العدم، وذلك ما قاله هيدجر، ومن هنا اعتبَر كبار النقَّاد أن سارتر أديب أولاً، ثم فيلسوف ثانيًا.

4ـ تقوم الوجودية على إنكار وجود الله، وبالتالي إنكار حياته بعد الموت، أو على عدم الرضا بقضاء الله وحكمته في هذا الوجود، وأنه بقدرته يمكن أن يُغيِّر أي حال إلى حال آخر، الأمر الذي جعلهم يعيشون حياة القلق والتشاؤم، والاهتمام بالذات وانتهاز الفُرَص التي ربما لا تُتاح بعدُ.

إن الناظر هذا الفكر يراه مخالِفًا للإسلام، وذلك لِمَا يأتي:
أـ أن الإسلام يقوم على الإيمان بوجود الله وبالحياة الآخرة، فالوجود الزمني في الدنيا معه وجود آخر دائم بعد الموت، فالعدم ليس نهاية الوجود كله، بل إن الحياة الآخرة خير لمَن اتقى واستقام أمره.

ب ـ ليس وسائل المعرفة الصحيحة قاصرة على إحساس الفرد نفسه بما يُعانيه من تجربة، فهناك العقل وميدان التفكير واسع غير محدود، وهناك الوحي المُنَزَّل من عند الله على رسله.

جـ ـ ليست الحرية الشخصية في الإسلام أو في أي دين آخر، بل في أي تشريع أو عُرْف، حرية مطلَقة بغير حدود، فهناك ضوابط موضوعة لاستقامة السلوك وللمحافظة على حقوق الآخرين، ضرورة أن الإنسان مدني بطبعه، لابد أن يعيش في مجتمع له حقوقه،
ومعلوم أن الأهواء الشخصية المختلفة، وفي بعضها تضارب كبير، والإنسان ليس كالحيوانات التي تُسَيِّرها غرائزها في أكثر أحوالها.

د ـ الإسلام لا يرضى عن التشاؤم المُطلَق، أو اليأس المُقْنِط، بل فتح باب الأمل، ودعا إلى النشاط والعمل، ووعد بالعفو عن المسيء إذا أناب إليه، وباليُسْر والفرج لمَن توكَّل عليه وآمن برحمته وحكمته وهو يُباشر نشاطه المأمور به.

وكل ذلك له أدلته من الكتاب والسنَّة وآثار السلف وواقع التاريخ الذي أثبت أن المسلمين انطلقوا بإيمانهم العميق بالله وبالحياة الآخرة، وبالأمل الواسع في نَصرِه وتأييده، وبالتزامهم الصادق للحُدود التي وضعها الله للسلوك ـ انطلقوا إلى الآفاق الواسعة، ينشرون كلمة الحق ويَعْمُرون الدنيا بالخير.

ولا حاجة بالمسلمين اليوم إلى استيراد أفكار وفَلْسَفات وأنماط سلوك وَضْعية هي نَتاج عقول تُخطئ وتُصيب، وهي نضح لمعاناة شخصية في ظروف خاصة: (وَمَنْ أَحْسَنُ من الله حكمًا لقوم يُوقنونَ) (سورة المائدة: 50). يقول “بول فولكييه” في كتابه: “هذه هي الوجودية”: “إن غموض شخصيات مَن اعتنقوا هذا المذهب جعل تعبيراتهم غامضة، وليس من السهل فهمها أو تحديد المعاني المُرادة منها، ولذلك لمَّا اعترض على سارتر بهذا الغموض قال: “لا عجب في عدم فهم ما أكتُب؛ لأن الواقع محال ولا يدركه الفهم” أمِثْل هؤلاء يُتَّخَذُون زُعَماء.