ذكر الله سبحانه قوله تعالى في سورة الرحمن (فَبِأيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إحدى وثلاثين مرة والآلاء هي النعم، ومفرد الآلاء إلى مثل معىً وأمعاء على بعض الأقوال اللغوية، والخطاب هنا للإنس والجن. وهما المرادن بالأنام في قوله تعالى في السورة نفسها (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) كما أنهما المُرادان بالثقلين في قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقْلانِ) وقد صرح بذلك في قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وفي قوله تعالى(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَق الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ).
والله سبحانه عدَّد في هذه السورة نعمًا كثيرة، وهذه النعم أثرٌ من آثار قدرة الله ورحمته، وحق من له هذه القدرة ومنه هذه الرحمة أن يُعبد وحده ولا يُشرك به سواه من خلقه.
وبعض هذه النعم لا يظهر لأول وهلة وجه النعمة فيها مثل (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) ولكن بالإمعان في النظر نجد أن فناء الخلق عند نهاية الدنيا وبقاء الله وحده من أكبر النعم، حيث يكون بعد الموت بعث وحساب وجزاء وينال أجره العادل من حُرم منه في الدنيا، ويقع العقاب على من أفلت منه في الدنيا، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (سورة الأنبياء : 47) والمؤمن بهذه الحقيقة لا تضيق نفسه إن ظُلم من العباد في الدنيا فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يتحسَّر إن وجد العاصين الظالمين ينعمون في الدنيا أكثر مما يتنعم به المؤمنون الصالحون؛ لأن الله سيقول لهم يوم القيامة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (سورة الأحقاف : 20).
وتكرار هذه الجملة بعد كل نعمة، وعدم الاكتفاء بها مرة واحدة أسلوب من الأساليب البلاغية في لغة العرب، وهو دليل على أن كل نعمة بذاتها كافية للإيمان بالله وتوكيد للحجة، وذلك كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو ينكره ويكفره، ألم تكن فقيرًا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن ماشيًا فأركبتك، أفتنكر هذا؟ ذكره القرطبي في تفسيره، وروى الحاكم عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال ” ما لي أراكم سُكوتًا، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردًّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد.