نزل القرآن مُنَجَمًّا أي مُفَرَّقًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، وذلك لحِكْمَة ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) ( الإسراء : 106 ) وقوله تعالى ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ) ( الفرقان : 32 ) وكان جبريل يعرض القرآن على الرسول ـ ﷺ ـ في شهر رمضان كل سنة مرة واحدة، وفي شهر رمضان الأخير من حياته عرضه عليه مرتين، وكان ينزل عليه ويقول له : ضع آيةَ كذا في موضع كذا، كما رواه أحمد.
وكان الرسول ـ ﷺ ـ يحفظ القرآن كما يحفظه بعض الصحابة، ومع الحفظ كان له كُتَّاب يأمرهم بكتابة ما ينزل عليه، وذلك على رقاع ولخاف ـ صفائح الحجارة ـ وعَسَب أي جريد النخل وغيرها، وجمع ذلك كله في عهده ﷺ .
وفي عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ جمع كل ما كُتِب ونظم وحفظ في بيت السيدة حفصة بنت عمر أم المؤمنين .
ومن النسخة التي عند حفصة نُسَخ عثمان ـ رضي الله عنه ـ عدة نسخ وأرسلها إلى الأمصار، وترتيب القرآن في آياته وسوره لم يكن حسب الزمن الذي نزلت فيه، وبيان ذلك فيما يلي :
1 ـ أما ترتيب آياته فأمر توْقيفي، بمعنى أنه وصلنا كما رتَّبه رسول الله ﷺ، بناءً على توجيه جبريل عليه السلام، وهذا أمْر مُجْمَع عليه لم يختلف فيه أحد من الأئمة، وحُكي الإجماع على ذلك عن جماعة منهم الزركشي في كتابه ” البُرهان ” وأبو جعفر في كتابه ” المناسبات ” وجاءت في ذلك رواية عن الإمام أحمد بسنده عن عثمان بن أبي العاص، قال : كنت جالسًا عند رسول الله ـ ﷺ ـ إذ شخص ببصره ثم صوَّبه ثم قال ” أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة : ( إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحْسَان وإيتاء ذي القُرْبَى … ) إلى آخرها، ( سورة النحل : 90 ) وجاء في صحيح مسلم عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : ما سألت النبي ـ ﷺ ـ عن شيء أكثر مما سألته عن الكَلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال ” تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ” وسميت هذا الآية بآية الصيف؛ لأنها نزلت في زمن الصيف، وهي قوْله تعالى ( يستفتونك في النساء ) ” انظر تفسير القرطبي ج 6 ص 29 ” .
2 ـ وأما ترتيب السور ففيه ثلاثة آراء للعلماء :
ا ـ رأي يقول إنه توقيفي من عند رسول الله ﷺ.
ب ـ ورأي يقول إنه باجتهاد الصحابة، حيث جعلوا السور الطوال في الأول، ثم المئين بعدها، وهي التي آياتها مائة أو تزيد، ثم المثاني بعدها، وهي التي أقل قليلاً من مائة آية، ثم بعدها المُفَصَّل وهو قصار السور، والمُفَصل نفسه منه طوال ومنه أوساط ومنه قِصار ـ وأجمع الصحابة على هذا الترتيب .
ودليل هذا الرأي أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يُجْمع القرآن في عهد عثمان . وما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان أن عثمان هو الذي قرن سورة التوبة بسورة الأنفال دون كتابة البسْملة بينهما، وذلك لتشابه قصتهما، مع أن الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من أواخر ما نزل بها، ولهذا رُتِّبَتْ ترتيبًا واحدًا.
ج ـ ورأي ثالث يقول : إن بعض السور كان ترتيبها بتوقيف من النبي ـ ﷺ ـ وبعضها الآخر كان باجتهاد الصحابة، وهو الذي مال إليه أكثر العلماء .
وممَّا رَتَّبه الرسول بنفسه البقرة وآل عمران . فقد صحَّ في مسلم حديث ” اقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ” وكذلك قُلْ هو الله أحد والمُعَوِّذتان، فقد صح في البخاري أن النبي ـ ﷺ ـ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة . جمع كفيه ثم نفثَ فيهما وقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين . لكن قد يكون ذلك واقعةَ حالٍ وليس أمرًا بالترتيب غير أنه مُرجح .
3 ـ لم يُرَتَّب القرآن في سوره وآياته حسب النزول؛ لأنه نزل مُفَرقًا ومنجمًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، كما قدَّمنا، ينزل حسب الظروف والمقتضيات، ليبيَّن حُكم قضية، أو يجيب على سؤال، أو يوجه إلى سلوك رشيد أو غير ذلك . وقد تنزِل في ذلك سورة بأكملها، وقد تنزل آيات فقط من السورة الواحدة لموضوع معين، ثم تنزِل آيات لموضوع آخر، وقد تكون في السورة نفسه أو في سورٍ أخرى .
ولما كان بين بعض الآيات والبعض الآخر تناسُب في حُكم من الأحكام أو في الحديث عن ظرفٍ معيَّن كان من تقدير الله ـ سبحانه ـ أن يضُم هذه الآيات المتناسبة بعضها إلى بعض، كما أن توْزيع بعض الآيات التي تتحدث عن قصة نبي من الأنبياء كموسى عليه السلام مثلاً وجعْلها متباعدة في السور له حكمة أيضًا، ليعطي فيه جرعة للنبي ـ ﷺ ـ في الاقتداء والتأسي ليثبِّت فؤاده، أو يعْرِض عليه هذه القصة من زاوية معيَّنة تتناسب مع ظروف نزولها، فيُوضع هذا البعض من القصة مع حُكم شرعي، أو آيات يناسبها أن تقرن القصة بها، فيكون هناك توزيعٌ للقصة الواحدة يجعل بعض الذين لا يفهمون السر في ذلك يقولون : لماذا لم يجمع الله كل القصة في سورة واحدة مثلاً ؟ لكن ترتيب الله أحكم، فهو ليس ترتيبًا عشوائيًا، وإنما هو صُنْع الله الذي أتقن كل شيء .
ومهما يكن من شيء فإن مراعاة الترتيب الموجود الآن يجب احترامه؛ لأنه إجماع الصحابة بعد كتابة عثمان لمصحفه، وإرسال نُسَخ منه إلى الأمصار ـ يُراجع ذلك في كتاب ” مناهل العِرفان ” للزرقاني، وكتاب ” الإتقان في علوم القرآن ” للسيوطي .