لو اتفق شخص يملك أسهم على سعر مع وسيط لبيع الأسهم والزيادة على ما اتفق عليه تعود للوسيط، ثم قام الوسيط باحضار وسيط آخر لبيع الأسهم لمشتري أو عدة مشترين وعند احضار الوسيط للمشتري عدل المالك عن البيع فهل يحق للوسيط عمولة لمجرد احضار المشتري؟
بعد التأمل التحليلي في الصيغة فإن هذا الاتفاق لا يخرج في طبيعته عن واحد من ثلاثة احتمالات، فهو:
1 ـ إمّا أن يكون توكيلاً من المالك للوسيط ببيع الأسهم لِقَاءَ أجْر.
2 ـ إما أن يكون جَعالة على جعل مالي محدّد، قرّره المالك الوسيط لقاء بيع الأسهم بوساطته.
3 ـ وإما أن يكون تكليفًا من المالك للوسيط أن يقوم بمساعي سمسرة مأجورة للتوصُّل إلى بيع الأسهم.
فلننظر.. أي من هذه الاحتمالات الثلاثة ينطبِق عليه، في ضوء الواقع المعروض، لكي يفسَّر به، ويأخذ حكمَه.
هذا وقبل الاستعراض لكلِّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة، وتنسيقًا للبحث ننبِّه إلى أن هذه الصيغة في بيان العِوض الذي يستحقُّ من يؤمر بعمل لمصلحة الآمر (صيغة أن الوسيط إذا باع الشيء المطلوب بيعه بأكثر من الحد الأدنى الذي حدده له المالك، فالزائد هو أجره) هذه الصيغة في تحديد العِوض تجعل العوض مجهولاً، وقد اختلفت الفقهاء فيها:” فالمشهور أن هذه الجَهالة في هذه الصيغة مُفسِدة للعقد؛ لأنها جَهالة فاحشة”.
وبعضهم يرى أنها جهالة مغتفرة لا تفسِد العقد، فإذا باع المأمور الشيء بأكثر مما حدَّده المالك استحق الزائد، وإذا باعه بمثل ما حدّد له دون زيادة لم يستحقّ شيئًا.
وسنستعرض في تكييف هذا الاتفاق، الاحتمالات الثلاثة على الأساسين:
(أولاً) على أساس أن هذه الجهالة مفسدة للاتفاق.
(ثانيًا) على أساس أنها مغتفَرة غير مفسدة.
لنرى ما النتيجة في مسألتنا على كلا الأساسين.
ونبدأ بتكييف هذا الاتفاق، وبيان حكمه الشرعي على أساس أن جهالة العوض في هذه الصيغة مفسدة للاتفاق:
أولاً: معالجة الموضوع على أساس أن هذه الصيغة مفسدة للاتفاق:
1 ـ احتمال أن هذا الاتفاق توكيل:
إن التوكيل إنابة عَقْديّة، وقد عرفه الفقهاء بأنه:
إقامة شخص لآخر مقامَه في التصرُّف (ر: مجلة الأحكام العدلية م/ 1449). أي: أن الشخص المقامَ يستطيع أن يتصرف في شؤون مَن أقامه لأجلِها، كما لو تصرَّف فيها الذي أقامه نفسه، فتكون تصرفات هذا الوكيل المقام في خصوص الشؤون التي حدِّدت له نافذة على الموكِّل بمجرَّد صدورها من الوكيل لا تحتاج إلى إجازة منه، كما تحتاج تصرفات الفضولي، ومن ثَمَّ يُعرِّفونها أيضًا بتعريف أوجز، أنها: تفويض التصرُّف إلى الغير، وهذا يعني أن الوكيل يملك سلطة التصرف بتمليك من الأصيل، فيستعمل الوكيل إرادته هو في التعاقُد، وينعقد العقد الموكل به بإيجابِه أو قبوله هو، وينفذ على الموكّل كما لو عقده بنفسه، وتلحقه آثاره من تمليك أو تملُّك وسائر حقوقه والتزاماته، هذه هي حقيقة التوكيل، وهي من بَدَهِيّات الفقه والقانون لا تحتاج إلى استشهاد بالنصوص ( وانظر المجلة م / 1461).
فهل هذا الاتفاق، يمكن أن يُفسَّر تكييفًا بأنه توكيل من المالك للوسيط الأول ببيع الأسهم؟
قطعًا لا يمكن اعتباره توكيلًا، والوسيط نفسُه لم يكن يعتبِر نفسَه وكيلًا، بدليل أنه إنما أحضر للمالك وسيطًا آخر “وعده بأنه سوف يجِد له مشتريًا أو مشترين للأسهم” المذكورة. ولو كان الوسيط الأول يرى نفسه وكيلاً لتعاقد هو مع من يجده من المشترين، وجاء إلى المالك ينبِّئه بأنه باع وأبرم بحكم وكالته، وطالبه بتسليم المُستنَدات، ولا حاجة به عندئذٍ إلى أن يُحضِر إليه مشتريًا ليتعاقدَ المالِك بنفسه معه، أو يحضر إليه وسيطًا آخر “يعِده بإيجاد مُشترٍ أو مشترين”.
فلا يمكن بحال أن يعتبر هذا الاتفاق توكيلًا، والوسيط وكيلًا، ولم يكن هو أيضًا يعتبر نفسه كذلك.
على أنه لو افترضنا غير الواقع واقعًا، وقلنا: إنه توكيل، فما النتيجة؟
من المعلوم أن الوِكالة عقد غير لازم، أي: أن كُلًّا من طرفيها، الموكِّل والوكيل، يستطيع أن يعدِل عنها، ويتحلَّل منها بإرادته المنفرِدة دون توقُّف على رضا الآخر. وهذا بمقتضى طبيعتها لأنها من قبيل الاستعانة، وإن للإنسان ألَّا يستعين بغيره في حاجاته، كما أن له أن يعدل عن الاستمرار في الاستعانة إذا استعان، ثم أراد أن يتابع عمله بنفسه، فلا تكون الوكالة لازمة غير قابلة للعزل إلا استثناءً في حالات محدودة معدودة، منها ما إذا تعلّق بتنفيذها حق للغير، أي: لشخص ثالث، وليس موضوعنا أحدَ تلك الحالات الاستثنائية. (ر: المجلة / 1521/ و1522 ومجلة القارئ على مذهب الإمام أحمد م / 1209).
وإذا كانت الوكالة بأجر تداخلت فيها أحكام الوكالة مع أحكام الإجارة.
فمن حيث قواعد الوكالة تبقى غير لازمة في حق الموكِّل، فله العدول عنها بشرط إبلاغ عدوله إلى الوكيل قبل قيام هذا الأخير بتنفيذ الوكالة (بيع الأسهم ).
ومن حيث قواعد الإجارة يُعتبر الوكيل كالأجير، فإذا كان العقد صحيحًا وقام الوكيل بتنفيذ ما وُكِّل به استحق الأجر المسمَّى.
لكن الواقع في مسألتنا خلاف ذلك من وجهين:
1 ـ لأن المالك قد أنهى الوكالة، وعدل عن بيع الأسهم دون أن يُمارِس الوكيل عملية البيع التي وُكِّل بها، وإن من حق المالك هذا العدول، لما بينا أنها عقد غير لازم بطبيعته.
2 ـ ومن جهة ثانية أن هذه الوكالة وكالة بأجر تداخلتْ فيها قواعد الإجارة، وهذه القواعد توجب اعتبارها فاسدة غير صحيحة بسبب جَهالة الأجر فيها؛ ذلك لأنها لم يحدد فيها أجر معين كما توجبه قواعد الإجارة، وإنما جعل الأجر فيها ما يزيد عن الحد الأدنى الذي حدّده المالك الموكِّل لسعر السهم، وهذا بالنظر الشرعي غرَر وجهالة معًا.
-فهو غرر لاحتمال أن لا يباع السهم بأزيد ممّا حدَّده المالك.
-وهو جهالة إذا بيع بأزيدَ لعدم معرفة تلك الزيادة المُحتمَلة.
-وإن كل واحد من الغرر والجَهالة بمفرده مُفْسِد للعَقد، فكيف إذا اجتمعا؟!
ولكن هذه الوكالة ـ رغم فسادِها ـ لو قام الوكيل بتنفيذها وإنجاز ما وُكِّل به يستحق فيه أجر المثل؛ لأنه لم يرض أن يقوم بذلك إلا في مقابل عوض. لكن لما فسدت بعدم تسمية عوض فيها بصورة صحيحة، وجب الانتقال إلى أجر المثل شأن كل عوض في عقد فاسد، ولا سيَّما إذا كان الفساد بسبب جهالة العوض نفسه، أو عدم صحة تسميته، كما لو جعل العوض خمرًا مثلاً.(ر: مجلة القارئ على مذهب الإمام أحمد م / 1201).
وقد نصَّ الفقهاء أنه لو قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد فهلك عنده يضمَن قيمتَه لا الثمنَ المُسمَّى، أما ضمانه فلأنه قبضه على أساس المعاوضة وليس على سبيل الأمانة. وأما وجوب القيمة، أي: ثمن المثل فلأن تسمية الثمن (أي: تقديره باتفاق الطرفين في صلب العقد) قد فسدت بفساد العقد، فوجب الرجوع إلى ثمن المثل الذي هو الأصل في تقويم الأشياء المضمونة.
وكذلك قالوا في الإجارة الفاسدة، إذا قام الأجير بالعمل الذي استؤْجِر عليه لا يستحق الأجر المسمَّى، لفساد التسمية بفساد العقد، وإنما يستحق أجر المثل (ر: مجلة الأحكام العدلية كتاب البيع م / 371، وكتاب الإجارة م / 461، وشرح علي حيدر على المجلة في الوكالة بأجر تحت المادة / 1467/، ومجلة القارئ في فقه الإمام أحمد م / 662/ و674).
هذه هي النتيجة بالنظر الفقهي إذا افترضنا غير الواقع واقعًا في هذا الاتفاق، فاعتبرناه، وكالة، (لكن قد أوضحنا قبلًا أنه لا يمكن اعتباره وِكالة، لِما سبق بيانه).
فما يستحقّه الوسيط الأول في هذا الاحتمال الأكثر إلزامًا للمالك، إنما هو أجر المثل على ما قام به من سَعي لإيجاد مشترٍ خلال بضعة الأيام، وإن لم ينفِّذ ما وكل به، وذلك لأن المالك الذي استعمل حقه في العدول قد قطع عليه بعدوله هذا، طريق متابعة السعي لتنفيذ المطلوب، وهو لم يبذل ما بذل من مَسعًى إلا على أساس العوض، فلا يمكن إهدار مسعاه، فيستحق أجر المثل عما بذل من سعي في سبيل تحقيق المطلوب وإن لم يتحقق.
2 ـ احتمال كون هذا الاتفاق من قبيل الجعالة.
الجعالة هي أن يلتزم شخص بجعل مالي محدَّد لمن يقوم له بعمل يُحقِّق به له غاية معينة.
فإذا كان ذلك باتفاق بين الجاعل وشخص آخر، فهي عقد ذو طرفين.وذلك كمن ضاع له حيوان مثلاً، فاتفق مع شخص ليبحث عنه، ويُعيده إليه لقاء جعل محدّد. فإن وجده وأعاده إليه استحق الجعل، وإن لم يجده فلا شيء له. وكمن أراد أن يُنشئ في أرضه مَزرعةً فاتفق مع آخر لكي يحفِرَ له فيها بئرًا، ويستنبط الماء، فإذا حَفَر الماء استحق الجعل، وإن لم يخرج الماء فلا شيءَ له على الحفر.
وأما إذا كان الجاعل لم يتّفق مع شخص بعينه، وإنما أعلن للجمهور أن مَن أحضر إليه ضالتَه فله كذا، فهذا عندئذٍ من تصرُّفات الإرادة المنفرِدة، فمن أحضر الضّالة استحقّ الجعل.
ويقابل ذلك في القانون (في بحث الإرادة المنفرِدة من مصادر الالتزام) إعلان شخص عن جائزة مُحدَّدة لمن يقوم بعمل يحقِّق غاية معينة، أو لمن يخترع آلة تؤدِّي وظيفة معينة، فمن حقّق المطلوب استحق الجائزة (الجعل)، ومن لم يحقِّق المطلوب لم يستحق شيئًا مهما بذل من جهد.
وواضح أن الجعالة في صورتيها العقديّة والإراديّة المنفرِدة، وفي الفقه الإسلامي والقانون الوضعي معًا، إنما تُنشئ التزامًا بتحقيق غاية، وليس التزامًا ببذل عناية فقط، فما لم يحقق المجعول له الغايةَ المطلوبة لا يستحق الجعل (أو الجائزة) مهما بذل من جهد وسعي وعناية.
ومن المقرَّر في الفقه والقانون أيضًا أن للجاعل أن يرجع عن الجعالة، ويلغيَ التزامه بالجعل قبل أن يقوم المجعول له بتحقيق المطلوب، أما إذا رجَع الجاعل بعد أن قام المجعول له بتحقيق المطلوب، فلا تأثير لرجوع الجاعل، بل يستحق المجعول له الجعل عليه؛ لأن حقَّه قد ثبت قبل رجوعه فلا يسقطه الرجوع.
فإذا طبَّقنا هذه القواعدَ في الجعالة على مسألتنا، وجدنا أن من الممكن اعتبارَ الاتفاق الحاصل بين المالك والوسيط من قَبيل الجعالة العقديّة بين طرفين معيّنين.
ولكن الجعالة أيضًا تتقارب أحكامها مع الإجارة، ويستمدُّ بعضها منها، فيشترط في الجعالة أيضًا أن يكون الجعل معلومًا محدّدًا.
فإذا كان مجهولاً فسَدت، وحينئذٍ إذا حقّق المجعول له في الجعالة الفاسدة الغاية المطلوبة، استحق أجر المثل كما في الإجارة، وليس الجعل المسمّى.
وفي مسألتنا الجعل مجهول فهي فاسدة، فلو أنه حقّق فيها المطلوب (وهو بيع الأسهم بسعر زائد عن الحد الأدنى المحدّد) استحق المجعول له أجرَ المثل وليس الزائد.
وبما أن الجاعل (وهو المالك) قد رجع عن الجعالة دون أن يبيع المجعول له الأسهم، فإن أقصى ما يمكن أن يستحقَّه على الجاعل المالك (بسبب عدوله عن البيع) هو أجر مثل ما بذله المجعول له من سعي في سبيل إيجاد مشترٍ، كما سبق القول في الكلام عن احتمال كونها وكالة بأجر.
3 ـ احتمال كون هذا الاتفاق تكليفًا بسمسرة.
السمسرة وساطة يقوم بها شخص بين طرفين راغبين في التعاقد (بائع و مشتر، أو مؤجّر ومُستأجِر…) لقاء أجر.
والسمسار وسيط في المُفاوَضة والمساوَمة بين الطرفين، ناقل رغبة كل منهما وإرادته إلى الآخر، وليس وكيلاً عن أحد منهما، فمتى تمَّ التفاهم ينقل إيجاب كل منهما وقَبوله إلى الآخر، وينبرم العقد بذلك بينهما، ويستحق السمسار أجره، فهو مجرّد رسول ناقل، وليس بنائب يتعاقَد بإرادته إيجابًا وقَبولاً كالوكيل. والفرق بين الرسول والوكيل في الفقه الإسلامي والقانون الوضعيّ معروف. (ر: المجلة م / 1454).
أجر السمسار يخضع أصلاً للشرط، فإن لم يحدَّد بالاتفاق يخضع للعُرف بين التجار، فقد يكون عرفًا على مَن يكلِّفه، وقد يكون على الطرفين المُتعاقِدين بنسبة من السِّعر الذي يتمُّ به التعاقد.
ومن المعلوم الواضح أيضًا في السمسرة: أن من يكلِّف السِّمسار ببيع أو شراء، أو إيجار أو استئجار يستطيع الرجوع عن تكليفه، ولا يلتزم بالاستمرار عليه، ولو وجد السمسار له من يرغب في التعاقد المطلوب؛ لأن من المقرّر في قاعدة العقود (نظرية العقد) أن لكل من الطرفين أن يرجع عن رغبته في التعاقد قبل انبرام العقد بالإيجاب والقبول المستوفيين شرائطهما، حتى إن للموجِب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القَبول من المخاطب بالإيجاب، وهذا محلّ اتفاق بين فقه الشريعة والقانون الوضعي، لا يُستثنى منه سوى حالة الإيجاب الملزِم عند علماء القانون، فيما إذا حدد الموجب للمخاطب بالإيجاب أجلاً محدَّدًا للقبول، فإن الموجب عندئذٍ لا يملك حق الرجوع عن إيجابه قبل انتهاء الأجل.
فإذا طبقنا أيضًا هذه القواعد على مسألتنا في الاتفاق موضوع البحث نجد أن الاتفاق الواقع بين الطرفين، المالك والوسيط، هو أقربُ ما يكون إلى السمسرة، وأن هذا الوسيط ينطبِق عليه حكم السمسار تمامًا، بأنه ـ كما أوضحنا في الاحتمال الأول ـ ليس وكيلاً مفوَّضًا ليعقد بإرادته هو، (ولم يكن هو بمقتضى التكليف من المالك يرى نفسه وكيلاً نائبًا عن المالك في التعاقد دون الرجوع إليه في إبرام العقد).
أما بالنسبة إلى أجر الوسيط في السمسرة، فإنه يُلحظ فيه ما بيَّناه في الاحتمالين الآخرين من الجهالة ووجوب الرجوع إلى أجر المثل، وأجر المثل في هذه الحالة أيضًا ليس هو أجر مثل السمسار لو أتمَّ تحقيق الصَّفقة بين المالك ومشتر جاء به، وتمَّ بينهما التعاقُد بسمسرته هو؛ لأن التعاقد لم يتم بوساطته مع مشترٍ وإنما أحضر للمالك سمسارًا آخر (وسيطًا آخر) قام بالاستيضاح من المالك، ووعده بأن يبحث له عن مشتر أو مشترين للأسهم.
فأجر المثل الذي يستحقُّه الوسيط الأول هو أجر مثل المسعى الذي بذله في الأيام المبيَّنة في السؤال بالبحث عن مشتر؛ لأنه إنما قام بهذا المسعى على أساس أنه مأجور لقاء عوض، وليس متطوِّعًا متبرِّعًا، لكن المالك قطع عليه متابعة هذا المسعى بعدوله عن البيع (ومن حقه شرعًا وقانونًا أن يرجع عن هذا التكليف، ويعدل عن البيع قبل وقوعه) فيستحق الوسيط عليه أجر المثل عن مقدار مسعاه.
إن جميع ما تقدّم بيانه مبنيٌّ على افتراض أن الصيغة المتفَق عليها لتحديد العوض الذي يستحقه الوسيط على المالك، تجعل العوض مجهولاً جهالة فاحشة مُفسِدة للاتفاق. فلننتقل إلى افتراض أن الجهالة في هذه الصيغة مغتفَرة لا تفسد الاتفاق، وهو الرأي الفقهي الآخر (كما بيّناه في أول هذا الجواب) لنرى النتيجة على هذا الرأي في ضوء وقائع المسألة.
ثانيًا: معالجة الموضوع على أساس أن هذه الصيغة صحيحة غير مُفسِدة للاتفاق.
بيَّنا ـ فيما سبق ـ أن من الفقهاء من يرى أن الجَهالة في هذه الصيغة لتحديد العوض مغتفَرة غير مُفسِدة للاتفاق. وعليه فإذا باع المأمور الشيء بأزيد من السِّعر الذي حدَّده له الآمر، استحق الزيادة، وتكون هي أجرَه، وإذا باعه بقدر ما حدّده له دون زيادة فلا شيء له. فإذا جرينا على هذا الرأي الذي يراه بعض الفقهاء في هذه الصيغة، نجد أن النتيجة التي بيناها على الرأي المشهور بأن هذه الجهالة مُفسدة وغير مغتفَرة، تلك النتيجة لا تتغيَّر في وقائع هذه القضية محلِّ البحث؛ ذلك لأن استحقاق المأمور بالبيع للزيادة عن السعر الذي حدّده له الآمر، إنما يكون لو بيعت السلعة فعلاً بمسعاه بأزيد مما حدَّده الآمِر، لكن في حادثتنا المسؤول عنها لم يقع البيع أصلًا بسبب رجوع المالك وعدوله عن أصل بيع الأسهم دون أن يأتيَ الوسيط الأول أو الثاني بمشترٍ أصلاً.
وقد بيَّنا أن من حق المالك هذا العدول قبل البيع على جميع الاحتمالات في تكييف هذا الاتفاق، سواءٌ أَعتُبر وكالة (رغم استبعاد هذا التكييف للأسباب التي بيّنتها قَبلًا)، أم اعتُبِر جَعالة، أم اعتُبر سمسرة، وكان الوسيط مجرّد سمسار.
وعندئذٍ فإن هذا الاتفاق بين الطرفين ـ على افتراض صحّته مع هذه الجهالة في تحديد العوض ـ قد أصبح مُلغًى بعدول المالك عن البيع، وإبلاغه ذلك للوسيط، فلم يحصل بيع.
فاستحقاق الزيادة عن السعر المحدّد هو أمر معلّق على وقوع البيْع بزيادة على السعر المذكور، والأمر المعلق على شرط لا يتحقق إلا بوقوع الشرط المعلَّق عليه، والمشروط عُدِم قبل وقوع الشرط. (ر: المجلة م/ 82/ وشروحها والأمثلة). وبما أن الشرط المعلَّق عليه في مسألتنا قد استحال وقوعه بعدول المالك وصيرورة الاتفاق ملغى، لم يبقَ استحقاق الزيادة المشروطة مُمكنًا أصلًا.
وبما أن الوسيط غير متبرِّع بمسعاه، بل هو عامل على أساس العِوَض، وقد استحال العوض المشروط لاستحالة الشرط المعلَّق عليه (وهو البيع بزيادة عن السعر المحدد) لم يبقَ مجال لتعويض الوسيط إلا بأجر المِثْل عن مسعاه الذي بذله قبل عدول المالك عن البيع، وهذه هي النتيجة نفسها التي رأيناها في مناقشة المسألة على الأساس الأول، وهو أن الجهالة المذكورة مفسِدة للاتفاق، فتفسد تسمية ما اشتمل عليه من تقدير العوض بهذه الصيغة؛ إذ من المقرَّر في القواعد الفقهيّة أنه إذا بَطَل المتضمِّن (بصيغة الفاعل) بَطَل المتضمَّن (بصيغة المفعول) (ر: المجلة م/ 52/ وشروحها والأمثلة).