جاء في شرح زاد المستقنع للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي:
بالنسبة لهذين الجانبين: الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواءً فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال ﷺ: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) فهذا نص من رسول الله ﷺ يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها.
وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله.
أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه مُحتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثاً جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين.
إذاً: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم.
أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي.
وبناءً على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان:
الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبداً أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضياً بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل.
الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يُخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويُرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك.
ولو كان لا يُخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات.
إذاً: ما يُخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيُحقن بمادة مخدرة موضعية.
إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين: الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعاً.
يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تُخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعاً، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور.
فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعاً، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.