حينما نتحدث عن الفقيه نريد أولاً أن نفرِّق بين الفقيه والداعية أو الفقيه والواعظ، فبعض الناس تختلط عليهم هذه الأمور، فكثير من الناس يظنون أن كل واعظ جيد هو فقيه جيد ؛ولذلك نرى كثيراً من الناس يذهبون إلى الخطباء والوُعَّاظ ويسألونهم في أصعب المسائل الفقهية وبعض الناس قد يكون أستاذاً جيداً في التفسير أو في التصوُّف، أو في الفلسفة، أو في العقيدة ولكن لم يدرس الفقه.
لكن الفقيه في نظر علمائنا الأولين هو المجتهد في علم الشرع، والمجتهد في علم الشرع هذا ليس هيناً، فلابد أن يكون عنده من الثقافات ومن المعارف العلمية ما يؤهله لاستنباط الأحكام من مصادرها ومن أدلتها، والعلماء اعتبروا المقلِّد ليس عالماً وليس فقيهاً ؛ وحينما يقولون: قال الفقهاء كذا فهم يقصدون قال الأئمة المجتهدون، ولذلك ليس كل من حصَّل بعض أحكام الفقه أو قرأ بعض كتب الفقه أو قرأ بعض كتب الحديث يُعَد فقيهاً .
فلابد أن يدرس اللغة العربية بنحوها وصرفها وبلاغتها وألفاظها ودلالاتها اللغوية الحقيقية والمجازية بحيث يتمكن من تذوق كلام العرب ويعرف منه الحقيقة من المجاز والمنطوق من المفهوم، والكناية من التصريح .
ولا بدأن يعرف القرآن الكريم – قالوا : ليس من الضروري أن يكون حافظاً له – وإنما يستطيع أن يستشهد به على كل مسألة، وأن يكون القرآن حاضراً في ذهنه، ودلالات القرآن وناسخ القرآن ومنسوخه ومجملُه ومفسَّرُه ..الخ
ولا بد أيضاً أن يكون عارفاً بالسنة وكتب السنة ومصادر السنة، يعرف الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، لا تدخل عليه الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة فيستشهد بها لأن العلماء قالوا :إن الضعيف لا يُحتَج به في الأحكام، ولكن يستشهد به في الترغيب والترهيب، وفي فضائل الأعمال والرقائق، إنما في الأحكام، وفي الحلال والحرام وفي العبادات وفي المعاملات، فلا يجوز أن يُحتجَّ إلا بحديث صحيح أو حسن .
ولا بد أن يكون عارفاً بالقياس ؛وما هي شروط القياس والأصل والفرع والعِلَّة وشروط هذا كله.
و لابد أن يعرف مواضع الإجماع حتى لا يخرق الإجماع المستيقن ؛ فيجب عليه أن يعرف المُجمَع عليه والمُختَلَف .
وقال الإمام أحمد: وأن يكون عارفاً بالناس .. فمعرفة أحوال الناس، الذي نسميه الآن “فقه الواقع” ؛ ومن ضمن فقه الواقع أن يكون عارفاً بالتيارات الفكرية والثقافية التي تسود الناس في عصره ؛ ومن ذلك أن يكون ملماً بقدر من العلوم الطبيعية والكونية العصرية، فلو كان لا يعرف علم الفلك ولا يدري عنه شيئاً كيف يفتي في قضية الحساب الفلكي والأهلَّة ؛ فلابد أن يكون عنده قدر من العلم والثقافية حتى يعرف الحياة والناس وأهم من هذا كله أن تكون عنده ملكة الفقيه، هذه الملكة القادرة على استنباط الجزئيات من الكليات واستنباط الأحكام من القواعد والمقاصد والنصوص فهكذا ينبغي أن يكون الفقيه الذي يستنبط الأحكام ويفتي الناس في أمور دينهم.
ولابد من شرط العدالة ؛ومعنى العدالةأن يكون الإنسان ملتزماً بأحكام الدين لا يجاهر بكبيرة ولا يُصر على صغيرة ولا يضيع فرائض الله، وهذا لابد منه حتى يقبله الناس، لأن القرآن قال بالنسبة للشاهد (ممن ترضون من الشهداء) ولذلك فلابد أن يكون هذا الفقيه مرضياً من أهل التقوى ومن أهل العدالة لكي يقبله العامة، ولكي لا يبيع دينه بدنياه فضلاً عن أن يبيع دينه بدنيا غيره؛ فمن أفتى بما يرضي الناس وإن أسخط الله عز وجل فلا يُقبل في ميزان العلم والعلماء.