إن من الكذب على رسول الله أن ينكر قولا صح عن رسول الله، كأن يتقول على رسول الله ما لم يقله ، فحديث “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم” متفق عليه رواه البخاري ومسلم، وهما أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل، وأصحاب الكتب الستة، والحديث في مجمله لا يعني التخلف عن ركب الحضارة بل يشير إلى أن الأجيال الأولى من هذه الأمة ملكت من القوة الروحية والارتقاء الإيماني والنفسي ما لم تستطع المدنية الحديثة بكل مباهجها أن تعطيه للإنسان في العصر الحديث، ولا يعني ذلك نفي الخيرية بالكلية، بل باب التنافس مفتوح، وفي كتاب الله وسنة رسوله خير زاد، ومعين لا ينضب لمن أراد أن يشترك في هذا السباق “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي:
لقد استنبط بعض الباحثين المعاصرين من حديث “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”مقولة غريبة،مضمونها: أن الإنسانية التي يحتضنها الإسلام تتقدم نحو ما هو أسوأ، لا نحو ما هو أفضل، وأن هذا التقدم إلى الأسوأ حتمي لا رادّ له، وفقًا لهذا الحديث وأمثاله، ولهذا يُرجح أن هذه الأحاديث موضوعة مصنوعة، إما لتبرير ما حدث بالفعل، إذا فرضنا أن الواضعين هم مسلمون فعلاً، وإما لتوجيه مسيرة الإسلام في طريق اليأس، إذا فرضنا أن الواضعين منافقون.
والحق أن الحديث صحيح متفق على صحته بين علماء الإسلام لم يطعن عالم سنّي ولا معتـزلي ـ فيما أعلم ـ في سنده أو متنه، بل ذكر ابن حجر والسيوطي وغيرهما من أئمة النقل أنه من المتواتر، فاعتبار هذا الحديث موضوعًا: اتِّهام للأمة كلها بالجهل والغباء وترويج الباطل، واجتماعها على الضلالة طوال تلك العصور، وهذا مدخل لنسف الدين كله.
أما ما يفهمه البعض من الحديث، وما يرتَّبه عليه من نتائج، فهو غير مسلَّم له، فالحديث إنما دلّ على فضل الجيل الذي تلقَّى عن رسول الله ﷺ، وتربّى في حضانة النبوَّة، وشاهد ما لم يشاهده غيره من آيات الله، ومن هدي رسول الله ﷺ، وحمَّله القدر من المهمات مالم يحمله غيره، فهو الجيل الذي نقل القرآن للأمة، وروى لها السنن، وفتح الله على يديه البلاد، وهدى به العباد، ثم الجيل الذي تتلمذ على هؤلاء الأصحاب، واقتبس من مشكاتهم، واقتفى آثارهم، والجيل الثالث الذي سار على دربهم واتبعهم بإحسان، فرضي الله عنهم، ورضوا عنه.
ولا يشك دارس منصف أن (الإشعاع الروحي) لهذه الأجيال القريبة من عهد النبوة الخاتمة،كان من القوة والعمق والسعة، بحيث لا يلحقه جيل آخر، وهذا في الجملة لا في التفصيل، وفي أمر الدين والتقوى لا في أمر الحياة والعلم والعمران، فهذه قد تتفوق فيها الأجيال اللاحقة على الأجيال الأولى المفضَّلة في الالتـزام الديني.
وقد بشّر الرسول ﷺ أمته أنهم سيرثون ممالك كسرى وقيصر، وسينفقون كنوزهما في سبيل الله، وأنهم سيملكون المشرق والمغرب يومًا، وأن الرخاء سيبلغ مدىً لا يكاد يجد ذو المال يومها من يقبل منه الصدقة، وأن الأمن سيستتب حتى إن المرأة تخرج وحدها من الحيرة بالعراق حتى تطوف بالبيت الحرام، لا تخاف إلا الله، وأن أرض العرب ستعود يومًا مروجًا وأنهارًا. فهل يعتبر هذا كله (تقدمًا إلى الأسوأ)؟!
إن أي قارئ غير متعصب ولا متعسف للتاريخ يعلم أن الخلفاء الراشدين بعد رسول الله ﷺ طوّروا كثيرًا من أمور الحياة، وأدخلوا عليها تحسينات وإضافات لم تكن في عصر النبوة، وهم الذين أمرنا أن نتبع سنتهم، ونعضَّ عليها بالنواجذ، فهي امتداد للسنة النبوية المطهّرة.
وبعد عصر الراشدين وجدنا المسلمين في عهد الأمويين والعباسيين،يبتكرون ويضيفون أشياء لم تكن في العصر النبوي، ولا العصر الراشدي، أقرّهم عليها علماء الأمة، وانعقد الإجماع على مشروعيتها، ويكفي أن تم فيها استبحار علوم الدين واللغة، وتدوينها وتأصيلها، وظهور المدارس العلمية والفكرية في شتى أنواع العلوم والآداب، ثم اقتباس علوم الأمم الأخرى، عن طريق الترجمة، ثم تدارسها وإنضاجها وتهذيبها، وإعمال يد التعديل والتحسين والتحوير فيها، بالحذف والإضافة والتغيير، والتقديم والتأخير، حتى تنسجم مع المزاج العام للأمة، وتتواءم مع دينها وقيمها وثقافتها، وتجد لها مكانًا في حياتها العقلية والوجدانية والاجتماعية. ثم ابتكار علوم جديدة كاملة،لم يعرفها السابقون.
وفي هذا الإطار نشأت الحضارة الإسلامية الفارعة الرائعة، ثابتة الأصول،باسقة الفروع، وارفة الظلال، مباركة الثمار.
ولم يتوقف المسلمون عن إبداع هذه الحضارة في مختلف مجالاتها، وشتى فروعها، بدعوى أن هناك أحاديث تغل أيديهم،أو تقيد أرجلهم، أو تشل تفكيرهم، محتّمة عليهم (التقدم إلى الأسوأ)!!
صحيح أن الأجيال المسلمة التي صنعت هذه الحضارة الشمَّاء، لم تكن في شفافية جيل الصحابة وتلاميذهم من الناحية الإيمانية (الروحية)، وهو أمر اعترف به الجميع، ولكن هذا لم يقف حائلاً أمام تفوقهم العلمي، وتقدّمهم الحضاري، وجهادهم الأخلاقي، بل وضعوا أخلاقيات ذلك الجيل المثالي نصب أعينهم، باعتباره مثلا إنسانيًا أعلى، وبذلك يجمعون بين الحسنيين، أو يحاولون ذلك على الأقل:حسنة الإبداع الحضاري المادي، وحسنة السمو الروحي والترقي الإيماني والخلقي.
على أن هناك أحاديث أخرى تبين فضل الأجيال اللاحقة،وتنوِّه بصبرها وثباتها في عصور الفتن والأزمات التي يمتحن فيها أهل الإيمان، وحملة رسالة الإسلام، ويغدو القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر، حتى ذكر الحديث أن للعامل فيها أجر خمسين!! قيل: منَّا أو منهم يا رسول الله؟ قال:”بل منكم” .
كما صحَّت أحاديث كثيرة تبشِّر بغدٍ مشرق،ومستقبل زاهر لدعوة الإسلام،وملك واسع لدولته.
وصحَّ الحديث كذلك أن الله يبعث في كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، وبذلك يتجدد أملها، ويقوى رجاؤها، في صلاح الحال إذا فسد، وقوة الدين إذا ضعف، واستقامة الأمر إذا أعوج.
استمرار الخير في سائر أجيال الأمة:
وإيمان المسلم بفضل القرن الأول أو القرون الأولى لا يعني أن باب الله قد أغلق أمام سائر القرون إلى يوم القيامة، وأن الأجيال القادمة محرومة من استباق الخيرات، فقد حازتها تلك القرون، ولم يعد أمامها إلا الفتات إن بقي الفتات، بل الحق الذي لا ريب فيه أن باب الله تعالى مفتوح للجميع إلى أن تقوم الساعة، واستباق الخيرات مأمور به لجميع الأمة في كل العصور: {فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا} المائدة:48. وكم ترك الأول للآخر، وكم في الإمكان أبدع مما كان.
وفي الحديث الشريف:”مثل أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره” .
يقرر الشراح هنا: أنه كما لا يحكم بوجود النفع في بعض الأمطار دون بعض، فكذلك لا يحكم بوجود الخيرية في بعض أجيال الأمة أو أفرادها دون بعض من جميع الوجوه، وفي هذا إيماء إلى أن باب الله مفتوح، وطلب الفيض من جنابه مفسوح، فكل طبقة من طبقات الأمة لها خاصية وفضيله، توجب خيريتها، كما أن كل نوبة من نوبات المطر لها فائدتها في النشوء والنماء لا يمكن إنكارها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة الرسول بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب، لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا من قبلهم بالإحسان، وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد، فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التقرير والتأكيد، فكل ذنبهم مغفور، وسعيهم مشكور، وأجرهم موفور.
قالوا:والمراد هنا وصف الأمة قاطبة ـ سابقها ولاحقها، أولها وآخرها ـ بالخير، وأنها ملتحمة بعضها ببعض، مرصوصة كالبنيان، مفرغة كالحلقة التي لا يدرى أين طرفاها .
والمسلمون في كل مكان وزمان يردّدون هذا القول بوصفه حديثًا نبويًا: “الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة” ومعناه صحيح، وإن لم يرد بهذا اللفظ.
فقد صحَّت جملة أحاديث عن عدد من الصحابة تؤكد أن “لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق حتى يأتي أمر الله” ، وهو ما يتفق مع منطوق القرآن الكريم {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} الأعراف:181.
كما صحت أحاديث تبشر بمستقبل مشرق للإسلام، تعلو فيه كلمته، وتنشر دعوته، وتتسع دولته .
سنن وقواعد مطردة:
ولقد وضح لدى الأجيال المسلمة طوال القرون: أن ثمة مبادئ راسخة، وقواعد ثابتة، وسننًا مطردة، من محكمات القرآن والسنة،يحتكم إليها الجميع،منها:
1ـ أن لكل عمل ثمرة، ولكل جهد جزاء في الدنيا قبل الآخرة،كما قال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} الكهف:30،{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}الأعراف:170.
2ـ أن الجهاد في الله،سواء كان جهادًا روحيًا أم ماديًا، لا يهدره الله أبدًا: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}العنكبوت:69.
3ـ أن من نصر الله نصره الله، ومكن له في الأرض، وإنما ينصر الله بالإيمان وعمل الصالحات، والصالحات: كل ما تصلح به الحياة روحيًا وماديًا،وما يصلح به الإنسان فرديًا وجماعيًا، قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}الحج:40،41، {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا} النور:55.