أموال النذور يرتبط حكمها بالنذر نفسه، فإن كان النذر مباحا كان المال المنذور مباحا، وإن كان النذر محرما كان المال المنذور محرما ، والمال الذي يوضع في صناديق النذور بالمساجد الكبرى قد يكون من المال الحرام ـ وهو الغالب اليوم ، لأن غالب الناذرين الذين يضعون مالهم فيها يتقربون بها إلى أصحاب القبور والأضرحة ـ وقد يكون ما فيها حلالا ، إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى .
فإن كانت هذه الأموال حلالا فيجب صرفها في مصارف الزكاة ، وإذا كان عمال هذه المساجد ممن يستحقون الزكاة ـ لفقر أو دَين ـ فيمكن إعطاؤهم منها ، وإن كانت هذه الأموال أو أغلبها حراما وجب التخلص منها بصرفها في وجوه الخير ، كما يجب رفع هذه الصناديق منعا للمنكر وسداً لذريعة الشرك .
أنواع النذر وأقسامه:
يقول أ.د نصر فريد واصل:
1 ـ النذْرُ المباح مشروع بالإجماع، وغير المشروع مُحرَّمٌ بالإجماع أيضًا، لقوله ﷺ: “مَن نَذَرَ أن يُطيعَ اللهَ فلْيُطعْهُ، ومَن نذَرَ أن يَعْصيَ اللهَ فلا يَعصِه “.
والنذْر المباح كقوله: نَذرتُ إنْ شفَى اللهُ مَريضي أذبحُ شاةً أو أتصدَّقُ بكذا. والمُحرَّم كقوله: نذرتُ سرقةَ فلان أو قتْله أو الزنا .
2 ـ وأموالُ النذور إنْ كانت بسببِ نذْرٍ مباحٍ واجبٍ ولَزِمَت به هذه الأموال، فتكونَ حلالًا يجب صرْفُها في المكان الذي حدَّدَهُ الناذر؛ لأن النذْر قُرْبةٌ فيها معنى العوض، وذلك لحديث النبيِّ ﷺ: “مَن نذَرَ أن يُطيعَ اللهُ فلْيُطعْه، ومَن نذَر أن يَعصيَ اللهَ فلا يَعصه “.
3 ـ والنذْرُ عبادةٌ، ولا يكون النذْرُ إلا لله ـ سبحانه وتعالى ـ لأنه قُرْبةٌ، والقُرُبات لا تكون إلا لله تعالى، وهي تَحتاج إلى نِيَّة ٍ؛ لأن العباداتِ كلِّها لا تَصِحُّ إلا بالنيَّة لحديثِ النبيِّ ﷺ: “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى .
والنذْر المُباح قِسمانِ :
الأول : نذْرُ اللَّجاجِ أو الغضب، وهو المُعلَّق على فعْلِ شيءٍ أو ترْكه، أي الحثُّ على الفعْل أو الترْك، كقوله: إن فعلتُ كذا فللهِ عليَّ كذا، أو إن لم أفعلْ كذا فللهِ عليَّ كذا. وسُمِّيَ لَجاجًا لأنه بسبب اللَّجاج وهو التردُّد بين فعْلِ الشيء أو ترْكه أو بسبب الغضب. وهذا النوع في معنى اليَمين عند إطلاق الصيغة، وفيها يكون الشخص مُخيَّرًا بين الوفاء بالنذْر إن وقَع المُعلَّق عليه وبين كفَّارة اليَمين، فإن قَصَدَ عند الصيغة القُرْبةَ وهو الحثُّ عليها بالنذْر المُعلَّق وَجَبَ النذْر عند وُقوع المُعلَّق عليه على الراجح قولًا واحدًا؛ لأنه في معنى نذْرِ التبرُّر .
القسم الثاني مِن النذْر المباح فهو نذْرُ التبرُّر، وهو ما قُصد به القُرْبة لله ـ سبحانه وتعالى ـ والطاعة له مِن أول الأمر، كقوله: إن شَفَى الله مَريضي تَصدقتُ على الفقراء بمبلغ كذا، أو نذرتُ لله مبلغ كذا على طلبة العلْم بمعهد كذا أو ببلدة كذا .
ما حكم الوفاء بالنذر:
يجب الوفاء بالنذْر إن حصل المُعلَّق عليه قولًا واحدًا بالإجْماع، فإنْ لم يُعلِّق النذْر بل أَطلق الصيغة على القُربة مُطلقًا كقوله: لله عليَّ ذبْحُ شاةٍ للفُقراء والمساكين، أو للهِ عليَّ ألفُ جنيه لفقراء بلدة كذا، فهو بالخيار بين الذبْح وعدم الذبْح وبين الإخراج للنقود وعدم الإخراج، وذلك على قولينِ:
الأول: وهو الإخراجُ. لأنه نذْرُ قُربةٍ مباحٌ وَجَبَ الوفاء به؛ لأن نذْرَ المباح غير الواجب يَجب الوفاء به لأنه قُربةٌ وعبادة، وقد انعقدتِ العبادة بالنِّيَّة مع الصيغة، والدخول فيها يُلزم الإتمامَ بها؛ لقوله ﷺ: “مَن نَذَرَ أن يُطيعَ الله فلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أن يَعصيَ اللهَ فلا يَعْصِهِ”. وهذه طاعةٌ تُوجِبُ الوفاء بها كمَا أمَر النبيُّ ﷺ .
الثاني: وهو عدم الإخراج. أيْ عدم الالْتزام بالمَنذور، وذلك لعدَم وُجود العِوَض المُعلَّق عليه النذْر في الصيغة والذي يوجب الالْتزام بغير مُقتضًى شرعيٍّ له، فلا يَلزم وإنما يكون هو مُخيَّرًا بين الفعْل أو الترْك، فإنْ فعَلَ أُثِيبَ على الفعْل، وإنْ ترَك فلا عِقابَ عليه، وعلى كل حال فالعبد مُخيَّرٌ بين القَولَينِ ولا حرَجَ عليه إنْ شاءَ اللهُ في العمل أو الفتوَى بأيِّ القولَينِ .
ـ ولا يَلزم النذْر بفِعْل مُباح أو ترْكِه، كالقيام والقُعود والمَشْي والأكْل والشُّرْب، ولا بفِعْل واجبٍ، كصلاة الصبح أو الظهر أو صوم رمضان؛ إذْ لا معنى لإيجاب النذْر في ذلك لأنه في الفعْل المباح إذا لم يَقصد الناذر الحثَّ على الفعْل أو الترْك بقصد القُربة يَكون لَغْوًا لحديث أبي داود: “لا نَذْرَ إلا فيما ابتُغِيَ به وجْهُ الله” ولأن النذْر في الواجبات أصلًا لنْ يحصل به شيء، فليس فيه حثٌّ على منعٍ أو تركٍ؛ لأنَّ الفعل واجبٌ بأمر الشرع، والترْك مُحرم قَطعًا أصْلاً، فكان النذْر بفعل الواجب أو بترْك المحرَّم من باب تحصيل الحاصل، فتكون الصيغةُ لَغْوًا ولا ينفذ بها النذْر، ولكن إنْ قَصَدَ الشخص في نذْر المباح الحثَّ على قُربةٍ لله في الفعْل أو الترك وخالَفَ لزِمَهُ كفَّارةُ يَمينٍ في قولٍ، وفي قول آخر رجَّحه الإمام النوويُّ: لا كفَّارة عليه. وهو الذي نَميل إليه .
حكم وضع النذور في صناديق المساجد:
-وأما حُكم صناديق النُّذور الموجودة بالمساجد الكبرى وخاصَّة التي بها أضْرحة، فإنْ كان النذْر نَذْرَ قُربةٍ وطاعة لله ـ سبحانه وتعالى ـ مُعلَّقًا على وَصْفه في هذه الصناديق، ولم يَقصد الناذِر قُربةً أو نَفعًا أو ضرًّا من صاحب الضريح، فالنذْر جائزٌ ومُباح، ويُصرف المال في الجهات التي يُحدِّدها الناذر إن تَعيَّنتْ هذه الجهات وهذه الأموال، وإنْ لم تُعيَّنْ صُرفت في سبيل الله على إطلاقها الواسِع بما يشمل مصارف الصدقات الثمانية، وعِمارة المساجد والقائمينَ عليها والفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمِين والمَدِينِين، وبيوت العلْم، والمَصحَّات للمَرضى الفقراء. ويجوز للعاملين بهذه المساجد أن يكون لهم نَصيبٌ فيها إن انطبقتْ عليهم الأوصاف التي تُدخلهم ضمْن أصحاب مَصارف الصدَقات، ومَن يَستعفِفْ يُعفّه الله، ومَن يَستغنِ يُغْنِهِ اللهُ مِن فضله، والله غنيٌّ حميد .
ـ أما إذا كان نذْرُ الناذر مالاً لوَضْعه في هذه الصناديق، يَقصد ناذرُه قُربةَ صاحبِ الضريح، بطلب خيرٍ منه أو دفْع ضُرٍّ عنه أو عن غيره، فيكون نذْرًا غير مشروعٍ ويكون مُحرَّمًا بالإجماع؛ لأنه في هذه الحالة يكون معصيةً تُقرِّبُ صاحبَها من درجة الشِّرْك والعِياذ بالله، ويكون نذْرُه هذا باطلًا، ومالُه وِزْرٌ عليه، ولا ثوابَ له في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن ذلك النذرَ يكونُ وسيلةً للحرام وما يُؤدي إلى الحرام يكونُ حرامًا، ولأن نذْر الحرام مَعصيةٌ، ولا يَنعقد بالإجماع لأنه باطلٌ والباطل مَردود على صاحبه .
وصناديقُ النُّذور التي تَغلِب عليها هذه الأموال الحرام تكون حرامًا، ويجب التَّنزُّهُ عن الأكْل منها، وتُوضع في المصارف العامَّة للمسلمين، وتُرفع هذه الصناديق من هذه المساجد سَدًّا للذرائع ومنْعًا للمفاسد ومنْعًا للشُّبُهات. ومَنِ اتَّقَى الشبهاتِ فقد استبْرأَ لعِرْضه ودِينه .
أما إن غلَب المالُ الحلالُ على المال الحرام فلا بأسَ مِن وَضعه في مَصارفه الشرعية بما يُحقق المصلحة للإسلام والمسلمين؛ لأن القليل الشاذَّ نادرٌ، والشاذ والنادر يأخذُ حُكم الكُلِّ أو المجموع إذا لم يُمكن التحرُّزُ منه أو فصْله، ولا يُكلف الله نفسًا إلا وُسْعها .