من الواجب أن نقرر عدة حقائق:
أولاً: هنا قاعدة أساسية لا يختلف فيها اثنان وهي أن كل مجتهد يصيب ويخطئ، وأن كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم --.

والإمام الشافعي إمام عظيم من أئمة المسلمين، ولكنه بشر غير معصوم، وقد قال هو عن نفسه: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، كما روي عنه قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.. وفي رواية: فاضربوا بقولي الحائط!.

ثانيًا: من الإنصاف للمجتهدين أن نضع آراءهم في إطارها التاريخي، فإن المجتهد ابن بيئته وزمنه، ولا يمكن إغفال العنصر الذاتي للمجتهد.

وقد عاش الإمام الشافعي في عصر قلما كانت تعرف الفتاة من يتقدم لخطبتها شيئًا إلا ما يعرفه أهلها عنه، لهذا أعطى والدها خاصة حق تزويجها ولو بغير استئذانها؛ لكمال شفقته عليها، وافتراض نضجه وحسن رأيه في اختياره الكفء المناسب لها، وانتفاء التهمة في حقه بالنسبة لها.

ومن يدري لعل الشافعي رضي الله عنه لو عاش إلى زماننا، ورأى ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة وعلم، وأنها أصبحت قادرة على التمييز بين الرجال الذين يتقدمون إليها، وأنها إذا زوجت بغير رضاها ستستحيل حياتها الزوجية إلى جحيم عليها وعلى زوجها، لعله لو رأى ذلك لغير رأيه، كما غيره في أمور كثيرة. فمن المعلوم أنه كان له مذهبان أحدهما: قديم قبل أن يرحل إلى مصر، والثاني: جديد بعد أن انتقل إلى مصر واستقر فيها، ورأى فيها ما لم يكن قد رأى، وسمع فيها ما لم يكن يسمع، وأصبح من المعروف في كتب الشافعية: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد.

شروط تزويج البنت بغير إذنها عند الشافعية:

الشافعية شرطوا لتزويج الأب ابنته البكر بغير إذنها شروطًا منها:
1- ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة، كطلاق أمها، أو نحو ذلك.
2- أن يزوجها من كفء.
3- أن يزوجها بمهر مثلها.
4- ألا يكون الزوج معسرًا بالمهر.
5- ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم.. الخ.

وفي هذه الشروط تخفيف لبعض آثار الإجبار، ولكنها لا تحل المشكلة من جذورها.

حكم استئذان المرأة عند الزواج:

صح عن النبي -- جملة أحاديث توجب استئمار الفتاة أو استئذانها عند زواجها فلا تزوج بغير رضاها، ولو كان الذي يزوجها أباها. منها ما في الصحيح: “لا تنكح البكر حتى تستأذن” قالوا: وكيف إذنها؟ . قال: “أن تسكت”. “البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمتها”. “الثيب أحق بنفسها، والبكر يستأذنها أبوها”.

وفي السنن من حديث ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت النبي -- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي --. وعن عائشة: “أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. وأنا كارهة، قلت: اجلسي حتى يأتي رسول الله --. فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من الأمر شئ”.

والظاهر من حالة هذه المرأة أنها بكر، كما قال صاحب “سبل السلام” ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس. وقد زوجها أبوها كفئًا: ابن أخيه. وإن كانت ثيبًا، فقد صرحت أن ليس مرادها إلا إعلام النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء! ولفظ “النساء” عام للبكر والثيب. وقد قالت هذا عنده -- فأقرها عليه.

وكأن هذه الفتاة الراشدة البصيرة أرادت أن توعّي بنات جنسها بما جعل لهن الشارع من الحق في أنفسهن، حتى لا يتسلط عليهن بعض الآباء، أو من دونهم من الأولياء، فيزوجوهن بغير رضاهن لمن يكرهنه ويسخطنه.

هل يشترط رضا البكر البالغ في عقد النكاح:

قال الإمام الشوكاني في “نيل الأوطار”: (ظاهر الأحاديث أن البكر البالغة إذا تزوجت بغير إذنها لم يصح العقد. وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم).

وقبل الشوكاني قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: (إن استئذان البكر البالغة واجب على الأب وغيره، وإنه لا يجوز إجبارها على النكاح وإن هذا هو الصواب، وهو رواية عن أحمد واختيار بعض أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره… وقال: إن جعل البكارة موجبة للحجر مخالف لأصول الإسلام، وتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع، قال:
والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -- أنه قال: “لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تُستأمر” فقيل له: ” إن البكر تستحي؟ فقال: “إذنها صمتها” وفي لفظ في الصحيح “البكر يستأذنها أبوها” فهذا نهى النبي --: لا تنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة؛ وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضًا فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟.

وأيضًا: فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببًا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضًا: فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفئًا، وعين الأب كفئًا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد.

الزواج بين موافقة الولي واستئذان المرأة:

من جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي -- في الحديث الصحيح: “الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها” وفي رواية: ” الثيب أحق بنفسها من وليها”.

فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره؛ وتمسكوا بدليل خطابه؛ ولم يعلموا مراد الرسول --. وذلك أن قوله: “الأيم أحق بنفسها من وليها” يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد.

“والثاني” قوله: “والبكر تستأذن “وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحب، حق طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا: لما كان مستحبًا اكتفى فيه بالسكوت، وادعى أنه حيث يجب استئذان البكر فلا بد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.

وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم؛ ولنصوص رسول الله --؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها؛ وإذنها صماتها. وأما المفهوم: فالنبي -- فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: “لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر” فذكر في هذه لفظ “الإذن” وفي هذه لفظ “الأمر” وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق.

فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي -- بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن “البكر” لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداء: بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها.

وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها . فهي آمرة له، وعليه أن يطيعها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر.

فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي --.

وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده. فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه فأي مودة ورحمة في ذلك؟) ا.هـ. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/22- 25).

وقال الإمام ابن القيم في ” زاد المعاد” بعد ذكر ما حكم به النبي -- من وجوب استئذان البكر: (وموجب هذا الحكم ألا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين لله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله -- وأمره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته..) وأفاض في بيان ذلك رضي الله عنه.
وهذا أيضًا ما أدين لله به، ولا أعتقد سواه، وإن قال من قال بخلاف ذلك.

وأما تزويج المرأة نفسها بغير إذن وليها، فهو جائز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا تزوجت كفئًا، حيث لم يصح عندهم حديث في اشتراط الولي. وهذا أيضًا عند الظاهرية في شأن الثيب، عملاً بقوله --: “والثيب أحق بنفسها من وليها”.
ورأي الجمهور أن الولي شرط للزواج أخذًا بحديث ” لا نكاح إلا بولي ” وغيره من الأحاديث، والحكمة في هذا أن يتم الزواج بتراضي الأطراف المعنية كلها، وحتى لا تكون المرأة إذا تزوجت بغير إذن أهلها تحت رحمة الزوج وتسلطه، حين لم يكن لأهلها رأي في زواجها.
وعلى كل حال إذا قضى قاض بصحة هذا الزواج فهو صحيح ولا يملك أحد نقضه كما قال ابن قدامة في “المغني”.