ترتيب آيات القرآن وسوره كان بتوقيف من النبي ﷺ، فعند نزول الوحي يخبر أمين الوحي جبريل النبي ـ ﷺ ـ على موضع الآية والسورة، ومادام هذا الترتيب توقيفيا لا يسع أحدا أن يقول لماذا كان كذا أو كذا ، ومن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن كما قال ابن الأنباري .
يقول الشيخ محمد صالح المنجد:
الإجماع والنصوص الكثيرة على ترتيب الآيات في السورة الواحدة أمر معلوم ومشهور ، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر وعبارته : ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ـ ﷺ ـ وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين . انتهى
وأما النصوص فمنها : ما أخرجه أحمد وأبو داود الترمذى والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني والى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر” بسم الله الرحمن الرحيم” ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان: كان رسول الله ـ ﷺ ـ تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظنت أنها منها فقبض رسول الله ـ ﷺ ـ ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. قال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (المستدرك)(2/330)
(ومنها ) ما أخرجه البخاري في الصحيح برقم (4536) عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا إِلَى قَوْلِهِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
( ومنها ) ما رواه مسلم برقم (1617) عن عمر قال ما سألت النبي ـ ﷺ ـ عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال ألا تكفيك آية الصّيْف التي في آخر سورة النساء .
(ومنها ) ما رواه مسلم برقم (809) عن أبي الدرداء مرفوعاً من حفظ عشر آيات من أول الكهف عصم من الدجال وفي لفظ عنده من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف .
وقراءته ـ ﷺ ـ للسور المختلفة بمشهد من الصحابة يدلّ على أن ترتيب آياتها توقيفي ، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيباً سمعوا النبي ـ ﷺ
ـ يقرأ على خلافة فبلغ ذلك مبلغ التواتر .
قال القاضي أبو بكر في الانتصار : ترتيب الآيات أمر واجب ، وحكم لازم فقد كان جبريل يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا .
وقال أيضاً : الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان ، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه ، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتّبه عليه رسوله من آي السور، لم يُقدّم من ذلك مؤخّر ، ولا أخّر منه مقدّم ، وأن الأمة ضبطت عن النبي ـ ﷺ ـ ترتيب آي كل سورة ومواضعها ، وعرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة ..
وقال البغوي في شرح السنة : كان رسول الله ـ ﷺ ـ يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرّقاً عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة .
وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضاً أو هو باجتهاد من الصحابة ؟ في هذه المسألة خلاف فجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه .
قال ابن فارس : جمع القرآن على ضرْبين أحدهما : تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا الذي تولته الصحابة .وأما الجمع الآخرـ وهو جمع الآيات في السور ـ فهو توفيقي تولاه النبي صلى الله عله وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه ومما استدل به لذلك اختلاف السلف في ترتيب السور فمنهم من رتبها على النزول وهو مصحف عليّ كان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل وهكذا وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد وكذا مصحف أبيّ .
وقال الكرماني في البرهان : ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب وعليه كان ـ ﷺ ـ يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين وكان آخر الآيات نزولاً { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين .
وقال الزركشي في البرهان : والخلاف بين الفريقين لفظي لأن القائل بالثاني يقول أنه رمز إليهم ذلك ليعلّمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك إنما ألّفوا القرآن ( أي: جمعوه ) على ما كانوا يسمعونه من النبي ـ ﷺ ـ مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قوليّ أو بمجرد إسناد فعليّ بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر .
وقال البيهقي في المدخل : كان القرآن على عهد النبي ـ ﷺ ـ مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق .
وقال ابن عطية : كثير من السور كان قد عُلم ترتيبها في حياته ـ ﷺ ـ كالسبع الطوال والحواميم والمفصّل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فَوَّض الأمر فيه إلى الأمة بعده .
وقال أبو جعفر : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف كقوله اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران رواه مسلم برقم (804).
وروى البخاري برقم (4739) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلادِي ( أي من قديم ما قرأته ) .
وقال ابن حجر ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفاً ، قال : ومما يدل على أن ترتيبها توقيفي ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ .. سَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ـ ﷺ ـ حِينَ أَصْبَحْنَا قَالَ قُلْنَا كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ قَالُوا نُحَزِّبُهُ سِتَّ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَثَلاثَ عَشْرَةَ سُورَةً وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ق حَتَّى تَخْتِمَ . قال : فهذا يدل على أن ترتيب السور – على ما هو في المصحف الآن – كان على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ ويحتمل أن الذي كان مرتباً حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ماعداه ..