الشعر كلام حرامه حرام و حلاله حلال ، والشعر هو ديوان العرب و من فضل الله تعالى على العرب أنه حفظ لغتهم بحفظ كتابه الكريم، فما زالوا يكتبون بها الشعر منذ سبعة عشر قرناً حتى يومنا هذا، فتجمع لديهم تراث شعري ضخم بلغة واحدة حية، لا مثيل له على وجه الأرض.
والإسلام عندما جاء لشبه الجزيرة العربية كان للشعر أسواق يتناشد الشعراء فيها ، ويتنافسون فيها على ريادة الشعر ، والقبيلة العربية إذا ظهر فيها شاعر أقامت الموائد ،وأتت إليها القبائل تهنئها على الشاعر الذي سوف يمجد قبيلته ، ويذكر مفاخرها في ديوان العرب ، ومن اهتمام العرب بالشعر أن هناك قبائل قد رفعها الشعراء كقبيلة أنف الناقة التي مدحها الحطيئة و أطنب في مدحهم ، وجعلهم يفتخرون باسمهم بعدما كانوا يستحون منه عندما قال :
قوم هم الأنف و الأذناب غيرهم ، وكذلك قبيلة نمير التي وضعها الشعر،وأنزل من قدرها ، و ذلك عندما أفحش جرير في هجائهم فقال :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا.
يقول إبراهيم بن سعد الحقيل [كاتب إسلامي سعودي]:
كان للعرب قبل الإسلام عاداتٌ يتفاخرون بها، فأقرَّ الإسلامُ منها ما هو حسنٌ كالوفاء والأمانة والصدق وغيرها، ونهى عمَّا هو سيئٌ كشرب الخمر والسَّلب والنهب وغيرها. وكان مما أقره مما يتفاخرون به: الشِّعْرُ. ولكن الإسلام عندما أقرَّهُ وضع لذلك ضوابط تحكمهُ أنْ ينزلق بصاحبه إلى ما هو محرمٌ .
فالشعر الحلال مجاله واسع ورحيب، وكذلك المحرم، وسنعرض الآن لهذين النوعين.
أولاً: الشعر الحلال:
فمنه المندوب: وقد نقول إنه الواجب لقوله ﷺ لحسان ابن ثابت: “أجب عن رسول الله ” وهو الرد على من هجا المسلمين ؛ لذلك دأب شعراء المسلمين المخلصون على الرد على هؤلاء الكفرة والزنادقة؛ فقد ناضل حسان، وعبد الله، وكعب عن رسول الله ﷺ ، كما رد عبد الله بن المبارك على عمران بن حطان في مدحه ابن ملجم قاتل علي.
ومن الشعر المندوب: مدح رسول الله ﷺ ، وبيان فضائله وخصائصه التي اختُصَّ بها وأخلاقه الحميدة، وذكر صبره وجهاده في سبيل الدعوة. وقد صنف ابن سيد الناس كتابًا سماه: (منح المدح) أو: شعراء الصحابة ممن مدح رسول الله ﷺ أو رثاه.
والكتاب مطبوع متداول، ولا يكون مدحه ــ عليه السلام ــ كما مدحه البوصيري وأضرابه حينما جعلوا لرسول الله ﷺ صفات هي و ــ سبحانه وتعالى ــ فما كان الرسول ليرضى بهذا المدح.
ومن الشعر المندوب: شعر الزهد الذي يحض على التقوى وطاعة الله وحسن الإسلام، ويزهِّد في متاع الدنيا الفاني، ويذكِّر الإنسان بالتوبة والإنابة إلى الله، ويعظهُ بمآله إليه ــ تعالى ــ ويذكره بالحساب والجزاء.
وقد قال أكثر الشعراء في هذا الباب؛ فمنهم من كان جُلُّ شعره في ذلك الباب مثل سابق البَرْبَريّ، وأبي العتاهية، وعبد الأعلى الشامي، وغيرهم، ومنهم من تجد الزهد في شعره عرضًا في لحظة توبة وندم ولكنها لا تدوم؛ فنحن نجده في أشعار أبي نواس، ومسلم بن الوليد، والفرزدق، وغيرهم كثير.
ومن الشعر المندوب: شعر الحكمة الذي يحث على الخلق الحسن والفعل الجميل. فهي في الشعر أقرب فهمًا وأكثر تأثيرًا؛ وقد قال عليه السلام: “إنّ من الشعر حكمة”. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإنّ الأمثال المنظومة إذا كانت حقًا مطابقًا فهي من الشعر الذي هو حكمة، وإن كان فيها تشبيهات وتخييلات عظيمة أفادت تأليفًا وتنفيرًا.
ومن الشعر الحلال المقبول: الغزل العفيف البريء الذي لا يحرك الشهوات، ولا يدعـــــو إلى الفواحـــش، ولا يخــاطب الغرائز؛ فقـد كان لحســان ــ رضي الله عنه ــ غزلٌ أنشده في الإسلام. كما مدح كعب بن زهير ــ رضي الله عنه ــ رسول الله ﷺ بقصيدته البردة وفيها غزلٌ. قال أبو بكر ابن العربي:
وقد أنشد كعب بن زهير النبي ﷺ … فجاء في هذه القصيدة بكل بديع، والنبي ﷺ يسمع، ولا ينكر في تشبيههِ ريقها بالراح.
كما نُقلتْ أشعارٌ لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة تغزل فيها بزوجة طلقها، فندم على طلاقها وهي “عَثْمة” وكذلك شريح القاضي، كما أورد ابن حزم في كتابه: (طوق الحمامة) نماذج من غزله، وكذلك فعل ابن القيم في روضة المحبين.
ومن الشعر المباح المقبول: المدح والرثاء؛ ما لم يجاوز الغاية؛ فقد عرف عن الشعراء التهافت على المدح طلبًا للنوال مما جعلهم يغرقون في لجة الكذب .
أما الرثاء: فما ينطبق على المدح ينطبق عليه، ولكنا نلاحظ أن الشاعر يكون أقوى شعرًا عندما يرثي قريبًا له كالأبناء والزوجات والوالديْن والأصدقاء؛ لصدق العاطفة، وكذلك عندما يرثي من أصابه الخيرُ على يديه.
ومن الشعر المباح المقبول: “الوصف” ما لم يصف ما حرم الله، بل إن بعضه قد يدخل في قوله تعالى :{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } عندما يحض الناس وينبههم على حسن صنع الله وإتقانه، وما سخر لبني آدم في الطبيعة.
ثانيًا: الشعر الـمُحَرَّم:
ومن هذا النوع: الغزل الفاحش الذي يخاطب الغرائز، ويثير الشهوات. قال شيخ الإسلام: ومن أقوى ما يُهيّج الفاحشة إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرضٌ من العشق ومحبَّة الفواحش.
وقال أيضًا: ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيرهُ أشكال الشعر الغزلي الرقيق؛ لئلا تتحرك النفوس إلى الفواحش.
فوصف الأجساد وما خفي منها له فعل السحر في النفوس: يحرك الشهوات، ويهوِّن اقتراف المحرمات؛ لذلك ضجَّ أهل البصرة ــ يوم كان الخير كثيرًا وأهله كُثُرًا ــ إلى المهدي في بشار، وقال بعض علمائهم : ما شيءٌ أَدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى. فاستجاب المهدي، وقتل بشار تحت السِّياط؛ فلما علم أهل البصرة بذلك هنأ بعضهم بعضًا .
ومن الشعر المحرم: “الهجاءُ” فهو قائم على السبِّ والشتم، ويجب أن نفرق بينه وبين هجاء المشركين والمارقين وكذلك الفساق الظاهر فسقهم، والظالمين المسرفين.
وعرف الهجاء منذ نشأة الشعر، واستعمله المشركون سلاحًا، فراحوا يهجون رسول الله ﷺ ، فأهدر دماء بعضهم وكالجاريتين اللتين كانتا تغنيان بما يُهجابه رسول الله ﷺ ، وأهدر دم كعب بن زهير لما هجاه.
وقد تعامل الخلفاء الراشدون مع الهجَّائين بحزم؛ فقد سجن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ الحطيئةَ، ولم يطلقه حتى تعهد بترك الهجاء؛ كذلك سجن عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه ــ الحارثَ بن ضابئ حينما هجا قومًا ورمى أمهم بكلبٍ، فاستُشهِدَ عثمان ــ رضي الله عنه ــ والحارث ما يزال في السجن . كذلك سجن معاوية بن أبي سفيان يزيد بن مفرغ الحميريّ حين أسرف في هجاء عبيد الله بن زياد وإخوانه.
ومن الشعر المحرم: التفاخر بالمعاصي وفعلها: كمدح الخمر وفعلها في العقول مما يدعو إلى احتسائها ظنًّا بصدق قول الشاعر، وغفلةً عن قول الله ــ تعالى ــ وقول رسوله ﷺ . وكان ذلك قليلاً في عصر صدر الإسلام وعصر بني أُمية؛ والأبرز في ذلك الأخطل؛ ولكنه كان نصرانيًا. وشاع ذلك وعرف في عصر بني عباس، فظهر بشار، وابن هَرْمة، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، وغيرهم. وسار كثير على منوالهم؛ وإن كان بعضهم لم يشربها، ولكنه قال ذلك مجاراةً لمن قبله؛ فبئس المجاراة وكذلك التفاخر بالعُهْر والزِّنى، وكان القائدَ في ذلك امرؤ القيس في الجاهلية، وبعده الأعشى، ثم تبعهم الفرزدق حتى كاد أن يَحدَّهُ سليمان بن عبد الملك لولا أن قوله تعالى :{وأنهم يقولون ما لا يفعلون }درأ عنه الحد ثم كثر ذلك في عصر بني العباس. وهو شعر ساقط يصور الزنا بطولةً وشجاعة ًوهيهات ذلك! وهو كثير في عصرنا هذا،وكذلك أشعار نزار قباني وغيره ممن كان ذلك نهجه. أهـ
وعلى هذا فقد تبين موقف الإسلام من الشعر ، وأن فيه الحلال و الحرام ، فإذا كان ما يقول من القسم الأول فالأجر الذي يأخذه على هذا حلال ، أما إن كان من القسم الثاني فإن كسبه يعد من الكسب الخبيث المحرم ،