إن التوسل بالنبي ـ ﷺ ـ من الأمور الخلافية بين العلماء قديما وحديثا، والأولى تركها خوفا من وقوع الناس في توسل غير مشروع، أو أن يتحول التوسل إلى استغاثة بالمقبورين وغير ذلك من المخالفات الشرعية.
ذكر هذا ابن كثير في التفسير ، وذكره أيضاً ابن قدامة في (المغني) في كتاب الحج، زيارة قبر النبي – صلي الله عليه وسلم – (3/298)، وذكره النووي في (المجموع 8/256)، وقال :” ومن أحسن ما يقول، ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له “.وقال العز بن عبد السلام :” ينبغي كون هذا مقصوراً على النبي – ﷺ-؛ لأنه سيد ولد آدم ..”وانظر فيما ينسب للفقهاء (الموسوعة الفقهية), مادة ( توسّل ).
حكم التوسل بالنبي ﷺ:
اختلف العلماء في التوسل بالنبي – ﷺ – على قولين مشهورين:
أحدهما: الجواز وهو ما ذكرناه بداية.
والثاني : المنع ، وهو منقول عن أبي حنيفة، وأحمد، وغيرهما.
هل يجوز التوسل بالنبي ﷺ:
قال ابن تيمية – رحمه الله – ” ..لم يكن الصحابة يفعلونه ، في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته , لا عند قبره, ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة .
وقد أطال ابن تيمية – رحمه الله – النَّفَس في مسألة التوسل والوسيلة.وصنف فيها كتاباً خاصاً مشهوراً ، وساق الخلاف ,ورجح ما سبق, ثم بين أن المسألة خلافية وأن التكفير فيها حرام وإثم؛ لأنها مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة.
وبالذي اختاره الشيخ من منع التوسل إلى الله بالرسول – ﷺ – نقول؛ لأن سد هذا الباب أصفى للتوحيد , وأبعد عن الغلو , خاصة مع ما رُكّب في نفوس العامة من الميل إلى التعلق بالحسيات والتذرع إلى الوقوع في الشرك.مع ملاحظة ما ذكره – رحمه الله – من الاختلاف في المسألة عند أحمد وغيره ، وعند المتأخرين.والقصة المذكورة ليس لها إسناد, ولو فرض أنها صحيحة فلا حجة فيها
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في موضوع التوسل :
قضية التوسُّل بالرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ والأنبياء، والملائكة والصالحين من عباد الله، من الأمور الخِلافية بين الأئمة، وأنه خِلاف في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العَقيدة.
ومَن قرأ كتب المذاهب المَتبوعة من الحنفيّة والمالكية والشافعية بل حتى الحنابلة: وجدَ هذا واضحًا، فالكثيرون أجازوا التوسُّل بالرّسول وبالصالحين من عِباد الله. وهناك مَن كَرَّهَ التوسّل، وهناك مَن منعه.
ولكُلِّ فريق من هؤلاء أدلّته أو شُبُهاته ـ على الأقل ـ في تأييد ما ذهب إليه، وللمُخالفين رُدودُهم عليه، كما هو الشأن في المسائل الخِلافيّة.
ما دليل من أجاز التوسل بالنبي ﷺ:
دليل من قالوا بالتوسل، وهو حديث عثمان بن حُنيف، وقد صحَّحه الشيخ الألباني، وهو من منكِري التوسُّل، وإن كان قد وجَّهه وجهةً أخرى، هي في نظري أقوَى وأحرَى. وهو هذا الحديث:
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضَرير البصر أتَى النبيَّ ـ ﷺ ـ فقال: ادْعُ الله أن يُعافيَني. قال: إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخَّرتَ ذاك، فهو خير، (وفي رواية: وإن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك)، فقال:ادْعُه. فأمَره أن يتوضَّأ، فيُحسِن وضوءه، فيصلِّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجّه إليك بنبيِّك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنِّي توجَّهت بكَ إلى ربِّي في حاجتي هذه، فتَقضِي لي، اللَّهم فشفِّعْه فِيّ “وشَفِّعني فيه”. قال: ففعل الرجل، فبَرَأ )
ولأن موضوع التوسُّل فقهيٌّ لا عَقدي، تكلَّمت عنه جميع كتب المذاهب الفقهية، على اختلاف أحكامها فيه، ودخل الموسوعات الفقهية، باعتباره من المسائل الفرعيّة العملية، التي تدخل في إطار البحث الفقهي.
وهناك كثيرون من المستقِلّين عن المذاهب قالوا بإجازة التوسُّل.
منهم الإمام الشوكاني ـ وهو سَلَفِيٌّ معروف ـ في كتابه (تحفة الذاكرين) شرح (الحِصن الحصين). وهناك غيره من القُدامَى والمُحدَثين.
ومنهم مَن أجاز التوسُّل بالنبيِّ وحده، ولم يُجِز التوسُّل بغيره من الأنبياء والصالحين، كما هو رأي الإمام عزّ الدين ابن عبد السلام.
ما أدلة المانعين من التوسل بالنبي ﷺ:
يقول الشيخ يوسف القرضاوي أنا شخصيًّا أميل إلى ترجيح عدم التوسُّل بذات النبي وبالصّالحين. وأتبنَّى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك، لعدة أمور:
الأول: أن أدِلّة المنع ـ أعني منعَ التوسل بذات النبي وذواتِ الصالحين ـ أرجحُ في الميزان العلمي. وخصوصًا أن باب الله تعالى مفتوح لكل خَلقه، وليس عليه حاجب ولا بَوّاب، مثل أبواب الملوك والأمراء. حتى العُصاة فتح الله ـ تعالى ـ لهم أبواب رحمتِه، ونسبَهم إلى ذاته، فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبادِيَ الذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزمر:53).
والثاني: أنّ إجازة التوسُّل قد تكون ذَريعةً إلى دُعاء غير الله تعالى، والاستغاثة به، وكثير من الناس يخلِط بين الأمرين، فسَدُّ الذّريعة بالنّظر إلى العوام أوْلَى.
والثالث: أن المنهج الذي أخذْتُه وسِرْت عليه في التعليم والدَّعوة والفتوى: أنَّنا إذا استطعنا أن نتعبَّد لله ـ تعالى ـ بالأمر المتَّفَق عليه فلا داعيَ لأنْ ندخل في الأمر المختلَف فيه.
وعلى هذا الأساس لا أُفَضِّل التعبُّد بصلاة التّسابيحِ؛ لأنَّ في الصلوات الأخرى المتَّفق عليها، والتي تواتَر عن رسول الله التعبُّد بها ـ مَا يُغني عنها.
ولكني لا أؤثِّم مَن أدّاه اجتهادُه إلى جواز التوسُّل، أو جواز التعبّد بصلاة التَّسابيح ونحوها. ولا أُنكر عليه إلا من باب الإرشاد إلى الأرجح والأفضل؛ إذْ لا إنكار في المسائل الخلافيّة، كما هو معلوم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وإن أنكَر التوسُّل بالذات، لم يشتَدّ في نَكيرِه إلى حدِّ التكفير أو التأثيم، كما يفعل بعض مَن يدَّعون الانتساب إلى مدرستِه. وقد قال في “فتاويه” بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: (ولم يقل أحدٌ: إنَّ مَن قال بالقول الأول فقد كَفَر. ولا وجهَ لتكْفيره، فإن هذه مسألة خَفِيّة ليسَتْ أدلّتُها جَلِيّة ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المُتواتِرة والمُجمَع عليها ونحو ذلك.. بل المُكَفّر بمثل هذه الأمور يستحقّ من تغليظ العُقوبة والتعزيز ما يستحقُّ أمثاله من المُفتَرِين على الدين، لا سيما مع قول النبي: (أيُّما رجلٍ قال لأخيهِ: يا كافِر فقد باءَ بِها أحدُهما) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1/106، والحديث متفق عليه عن ابن عمر.)
يرى الكثيرون: أن الحديث يدلُّ على جواز التوسُّل في الدعاء بِجاه النبيّ ـ ﷺ ـ أو غيره من الصالحين؛ إذ فيه أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ علَّم الأعمى أن يتوسَّل به في دعائه، وقد فعل الأعمى فعاد بصيرًا.
أما الشيخ الألباني فقال:
وأمّا نحن نرى أن هذا الحديث لا حُجّة لهم فيه على التوسُّل المختلَف فيه، وهو التوسُّل بالذات، لأن توسُّل الأعمى إنّما كان بدعائه.
والأدلّة على ما نقول من الحديث نفسِه كثيرة، وقد فصَّلها في كتابه (التوسُّل وأنواعه وأحكامه) فليُرجع إليه.