الواو في اللغة العربية لا تفيد الترتيب ، بل تفيد مطلق الجمع عند جمهور العلماء ، فيستوي تقديم أحد الجنسين وتأخيره ، ولا تناقض في هذا مطلقا.
ومع هذا فللتقديم والتأخير أسرار هي من إعجاز القرآن الكريم ، ومن ذلك أن الله عز وجل قدم الجن في الحديث عن النار في الأعراف لأنهم أكثر غواية وضلالا وإضلالا ، فمنهم الشياطين والمردة ، وعددهم أكثر ، فناسب ذكرهم أولا.
أما في سورة الأنعام وفي الحديث عن معاداة الأنبياء الذين هم من الإنس فالأنسب تقديم الإنس ، لأنهم أشد في المعاداة الفعلية ، فهم الذين حاربوا الأنبياء بالسلاح ، وهم الذين أخرجوهم ، وقتلوا بعضهم، وأما الجن فلم يستطيعوا ذلك ، وكان يكفي النبي أن يستعيذ بالله منهم فيكفيه شرهم ، وكذلك يكفي المؤمنين.
يقول الدكتور عبد الفتاح عاشور، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر:
ليس في آيات الله اختلاف ولا تناقض ولا تعارض وهذا سر من أسرار إعجاز القرآن العظيم ، وقد قال الله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ).
وما نراه من التقديم والتأخير في الآيتين يجعلنا ننظر ونتساءل هل حقا هناك تقديم للجن على الإنس في آية الأعراف ، وتقديم للإنس على الجن في آية الأنعام؟
والجواب : قواعد اللغة العربية التي نزل بها القرآن تقول: إن واو العطف لا تفيد تقديما ولا تأخيرا ولا ترتيبا، إنما الذي يفيد ذلك من حروف العطف هو الفاء و” ثم ” ، فأنت إذا قلت جاء محمد وعلي لا تفيد هذه العبارة أكثر من الحكم بمجيئهما، سواء جاءا معا أو جاء محمد أولا وعلي ثانيا أو العكس، وما دام العطف بالواو في الآيتين فهذا معناه إثبات الحكم للجن والإنس كما في الآية الأولي أو الإنس والجن كما في الآية الثانية ، دون أن يترتب على ذلك ترتيب لأحدهما على الآخر.
ومع ذلك فإننا نبحث في القرآن في مثل هذه الآيات ونتساءل لماذا ذكر الأول ثم الثاني في موضع والثاني قبل الأول في موضع آخر؟
ولعل الحديث عمن خلقهم الله لجهنم يجعل تقديم الجن في هذا الموضع أولى لأن الشياطين منهم، وفي الإنس الأنبياء والأولياء والجن أكثر عددا وأقدم خلقا، وقد قال الله في سورة الجن على لسانهم: ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) .. أما في الأنعام فالحديث عن أعداء أنبياء الله ورسله، فمن أشد عداوة لهؤلاء الأنبياء؟ شياطين الإنس الذين يتفنون في إيذاء الأنبياء وأتباعهم وعداوتهم ظاهرة واضحة ، أما شياطين الجن الذين يوسوسون للقلوب ويمكن دفع وسوستهم بالاستعاذة بالله السميع العليم .
من الواضح أن عداوة شياطين الجن أقوى وأخطر ولهذا قدم ذكرهم على شياطين الجن.. ولذلك قال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن وذلك أنه إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن؛ وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلي المعاصي.
وهناك معنى آخر وهو أن المعنى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن، فالشياطين كلها من أولاد إبليس، يسلطها على الإنس كما يسلطها على الجن فإن الجن منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، فمن الذي يضل الجن فيحتاج هذا الجن إلى الهداية والتذكر؟ إنه الشيطان المسلط عليه كما سلط هذا الشيطان على بني آدم.
وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين.