من معالم السلوك الحضاري الذي وجهت إليه منظومة الأخلاق الإسلامية التزام النظام في كل شيء.
ومما لا يخفى أن العرب لم يكونوا يحفلون بهذا المعنى، فقد كانت النزعة الفردية عليهم غالبة، ولم يخضعوا لقوانين تنظم حياتهم، ولا لحكومات تضبط أمرهم ؛ فكل واحد منهم أمة برأسه، إلا فيما يتعلق بأمن القبيلة وحرماتها،أو تطلعاتها وأطماعها في غيرها أحيانًا، فهو معها حمية وعصبية، بالحق وبالباطل. فهو بين فردية مسرفة، وعصبية مجحفة.
ما هي أهمية النظام في الإسلام؟
لما جاء الإسلام نقل المسلمون نقلة أخرى، وعلمهم التزام النظام واحترام الآداب، في كل شئون حياتهم، كبيرها وصغيرها.
-فلا يدخل بيت أحد – وإن يكن أقرب الناس إليه – إلا بعد استئذان.
والاستئذان مقيد بثلاث مرات، وإلا فعليه أن ينصرف، وفي الحديث:
« إذا استأذن أحدكم فلم يؤذن له – ثلاثا – فليرجع » (متفق عليه، عن أبي موسى وأبي سعيد – اللؤلؤ والمرجان (1391).
-ولا يفرق بين اثنين جالسين، إلا بإذنهما.
-وإذا دخل مجلسا جلس حيث ينتهي به المجلس.
-وإذا قام رجل من مجلسه لحاجة ثم عاد، فهو أحق بمجلسه.
-ووضع لهم قواعد في آداب التحية والسلام: فيسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والمار على الجالس.
-كما وضع لهم آدابا للأكل والشرب، كما في حديث: « سم الله، وكل بيمنيك، وكل مما يليك » (متفق عليه، عن عمر بن أبي سلمة. اللؤلؤ والمرجان (1313).
-وفي بعض المواقف أراد أحد الحاضرين – وهو أصغر سنا – أن يتكلم قبل الكبير ودون إذنه، فقال النبي – ﷺ -: « كبِّر » أي قدم الأكبر، إلا أن يأذن له.
-ويجب على كل فرد أن يحترم حقوق الآخرين، ويرعى الأعراف السائدة في البيع والشراء، والزواج والتقاضي، وسائر أنواع التعامل بين الناس.
-فلا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه.
-وعلى الناس أن يراعوا ما تراضوا عليه من عقود أو شروط، كي تنتظم أمورهم وتستقر معاملاتهم.
وفي الحديث: « المسلمون على شروطهم » (رَواهُ أبو داود وَالحَاكِمُ عن أبي هُريرةَ. صحيح الجامع الصغير (6714).
-وينبغي للمسلمين أن يتعاونوا على تنظيم أمور حياتهم بما يعين كل واحد منهم على أن يؤدي واجبه، ويأخذ حقه.
ومن ذلك ما جاء في الحديث: « إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم » (رَواهُ أبو داود عن أبي سعيد (2608)، ورواه البيهقيُّ في السنن (257/5)، ورواه البزار عن ابن عمر جزءًا من حديث، قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح، خلا عنبس بن مرحوم وهو ثقة (255/5 ).
وقال عمر بن الخطاب: « إذا كان ثلاثة نفر فليؤمروا أحدهم: ذلك أمير أمره رسول الله – ﷺ -» (رَواهُ الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (443/1، 444)، ورواه أيضًا البزار، قال الهيثمي ورجال رجال الصحيح، خلا عمار بن خالد وهو ثقة (255/5).
وفي حديث آخر: « لا يحل لثلاث نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم » (رَواهُ أحمد عن عبد الله بن عمرو، وصححه الشيخ شاكر (6647) تبعًا لمنهجه في توثيق ابن لهيعة بإطلاق).
وقال الإمام الخطابي في بيان الحكمة من هذا الأمر النبوي.
إنما أمر بذلك ليكون أمرهم جميعًا، ولا يتفرق بهم الرأي، ولا يقع بينهم خلاف، فيعنتوا، وفيه دليل على أن الرجلين إذا حكَّما بينهما رجلا في قضية، فقضي بالحق، فقد نفذ حكمه (ذكره الخطابي في (معالم السنن)، الحديث (2496).
-وكان النبي – ﷺ -إذا بعث بعثًا، أو سرية في مهمة أمر عليهم واحدًا منهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعون، وقال: « من يطيع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني » (متفق عليه عن أبي هُريرةَ، صحيح الجامع (6044).
-وبين أن الطاعة للأمراء واجبة، وإن كان الأمير عبدًا حبشيًا، فيما أحب المرء وكره، ما لم يؤمر بمعصية لله، وفي الحديث: « السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » (متفق عليه عن ابن عمر. المصدر السابق (3693).
وقد أمرهم القرآن الكريم أن يطيعوا أولي الأمر منهم، كما أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ) (النساء: 59).
-وأمرهم كذلك أن يتحفظوا في الأمور التي تتعلق بأمن الجماعة، ولا يطلقوا الألسنة تهرف بما لا تعرف، وأن يردوا الأمر إلى أهل الاختصاص فيه قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83).
ما هي مقاصد صلاة الجماعة؟
لقد كان المسجد، وكانت صلاة الجماعة فيه هي المدرسة اليومية العملية، التي يتلقى فيها المسلمون – على يد الرسول المعلم – دروس التربية والتدريب العملي، لتحويل المبادئ والقيم إلى عمل ملموس، وواقع معيش، ولها مقاصد كثيرة.
ففي رحاب المسجد يتعلمون – بالممارسة – ضرورة الجماعة، وأهمية القيادة، وحسن الطاعة، ووجوب رعاية النظام، واحترام قواعد السلوك الجماعي.
ولابد في صلاة الجماعة من إمام يقودها، يختارونه وفق مواصفات وأولويات حددها لهم الرسول – ﷺ -. قال: « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا، ولا يؤمن الرجل في أهله، ولا في سلطانه » (رَواهُ الجماعة عن أبي مسعود الأنصاري، صحيح الجامع الصغير (8011).
وعلى الإمام أن يعمل على تسوية الصفوف وانتظامها بقوله وفعله، حتى تستقيم وتتواصل وتتراص، فلا عوج ولا فرجة ولا خلل ؛ فإن عوج الظاهر دليل على عوج الباطن، واختلاف الأبدان يؤذن باختلاف القلوب.
وكان النبي – ﷺ -هو الأسوة والمثل والمعلم في ذلك كله، وجاءت أحاديثه الشريفة تضع القواعد، وتوضح المعالم، لصورة الجماعة التي يحبها الله ورسوله.
فعن ابن عمر قال: قال رسول الله – ﷺ -: « أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسووا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا: وصله الله، ومن قطعه قطعه الله » (رَواهُ أبو داود بإسناد صحيح، كما في المشكاة (1102).
وعن النعمان بن بشير، قال: كان رسول الله – ﷺ -يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح، حتى رأي أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأي رجلا باديا صدره من الصف، فقال: « عباد الله ! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم » (رَواهُ مسلم في الصلاة (436).
وعن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله – ﷺ -بوجهه، فقال: « أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري » (رَواهُ البُخاريُّ ومسلم في كتاب الصلاة ).
وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله – ﷺ -يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: « استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » (رَواهُ مسلم في الصلاة (423، 122).
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله – ﷺ -: « ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم – ثلاثا – وإياكم وهيشات الأسواق » (رَواهُ مسلم في الصلاة (422، 123).
وهيشات الأسواق: ارتفاع الأصوات والصخب واللغط فيها، والمنازعة والخصومات فيها.
وعن أبي سعيد الخدري قال: رأي رسول الله – ﷺ -في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: « تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله » (رَواهُ مسلم في الصلاة (438: 130).
وعن جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله – ﷺ -فرآنا حلقا، فقال: « ما لي أراكم عزين؟! » ثم خرج علينا، فقال: « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ » فقلنا: يا رسول الله ! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: « يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف » (رَواهُ مسلم في الصلاة (430، 119).
وإذا دخل الإمام في الصلاة، فيجب على المأمومين خلفه أن يتابعوه ويأتموا به، ولا يجوز لهم أن يسبقوه بركوع أو سجود أو قيام، أو أي حركة من حركات الصلاة ؛ فهذا ينافي صورة الجماعة المؤمنة الملتزمة المتراصة خلف قيادتها.
وفي الحديث: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا » (متفق عليه، عن أنس. اللؤلؤ والمرجان (232).
وهذا ما لم يخطئ الإمام خطأ ظاهرا، فهنا على المأمومين أن يصححوا له خطأه، وينبهوه على غلطه بدون تشويش، وهذا حق الكبير والصغير، حتى المرأة في الصفوف الخلفية البعيدة تستطيع أن تصفق بيديها لتنبه الإمام.
وفي هذا جاءت الأحاديث النبوية معلمة وموجهة:
عن أنس قال: صلى بنا رسول الله – ﷺ -ذات يوم، فلما قضى صلاته، أقبل علينا بوجهه، فقال: « أيها الناس ! إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي، ومن خلفي » (رَواهُ مسلم (426: 112).
وعن أبي هُريرةَ، قال: قال رسول الله – ﷺ -: « لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد » (رَواهُ مسلم (417: 8).
وعن البراء بن عازب قال: كنا نصلي خلف النبي – ﷺ -، فإذا قال: « سمع الله لمن حمده ».