الطلاق الصريح لا يقع بمجرد اللفظ خلافا لجمهور الفقهاء ، بل يشترط فيه النية والقصد ، وعلى القاضي أن يعتد بإخباره عن نيته عملاً بالظاهر ، وإذا لم يُرْفع الأمر إلى القاضي فيجب العمل بالحقيقة ، وهي أنه لا يقع طلاق إلا بلفظ يقصد به حل عقدة الزوجية.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-الزواج عقدة محكمة توثق بين الزوجين بعقد مقصود مع العزم، فمن المعقول أن لا تُحَلَّ إلا بعزم , وبذلك جاء الكتاب الحكيم ، قال تعالى: [ وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ ]( البقرة : 235 ) أي لا تعزموا عقد هذه العقدة إلا في وقتها وهو انتهاء عدة المرأة والكلام في المعتدة ، وقال تعالى : [ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق ]( البقرة : 227 ) إلخ أي إن صمموا عليه وقصدوه قصدًا صحيحًا.
والقاعدة عند الفقهاء في العقود أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني , وظاهر أن أعظم العقود وأهمها العقد الذي موضوعه الإنسان من حيث يأتلف ويجتمع ويتوالد ويربي مثله , فمثل هذا العقد يجب الحرص التام عليه لأن في حله خراب البيوت وتشتيت الشمل المجتَمِع , وضياع تربية الأولاد وغير ذلك من المضار , ولكن أكثر فقهاء المذاهب المشهورة ذهبوا إلى أن عقدة النكاح تنعقد بالهزل وتنحل بالهزل , حتى كأنها أهون من العقد على أحقر الماعون الذي اشترطوا فيه مع التعاطي الإيجاب والقبول الدالين على القصد الصحيح , وحجتهم في حديث غريب كما قال الترمذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي من حديث أبي هريرة وهو : ( ثلاث جدهن جد , وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة ) وقد صححه الحاكم الذي كثيرًا ما صحح الضعاف والموضوعات , وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي فيه : منكر الحديث , ولذلك لم يخرج حديثه , ولقد عرف النسائي رحمه الله تعالى من ابن ( أزدك ) هذا ما خفي على كثيرين , ونحن نقدم جرح النسائي على توثيق غيره عملاً بقاعدة تقديم الجرح على التعديل مع كون موضوع الحديث منكرًا لمخالفته ما دل عليه الكتاب من وجوب العزم في هذا الأمر ومخالفته القياس في جميع العقود , وهو أن تكون بقصد وإرادة وإن جعله الحافظ حسنًا ، ولهذا لم يأخذ به مالك ولا أحمد – وهو أحد رواته – على إطلاقه بل اشترطا النية في لفظ الطلاق الصريح , واشتراطه في الكناية أولى لاحتمالها معنيين.
ومن العجائب أن بعض الفقهاء يقول: إن النكاح لا يقع من الهازل ولكن الطلاق يقع , فهو يأخذ ببعض الحديث ويترك بعضًا , وقد دعم بعضهم حديث ابن أزدك بحديث فضالة عند الطبراني: ( ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق ) وهو على ضعفه بابن لهيعة في سنده ينقض الأول لا يدعمه؛ لأن عدم الجواز يستلزم الفساد لا الصحة كما يعرف من الأصول , وجاء بلفظ آخر فيه انقطاع فلا يعول عليه ولا يبحث فيه.
ثم إن مسائل العقود ومنها النكاح والطلاق كلها مشروعة لمصالح العباد ومنافعهم ومعقولة المعنى لهم , وليس من مصلحة المرأة ولا الرجل ولا الأمة أن يفرق بين الزوجين بكلمة تبدو من غير قصد ولا إرادة لحل العقدة بل فيها من المفاسد والمضار ما لا يخفى على عاقل , فلا يليق بمحاسن الملة الحنيفية السمحة أن يكون فيها هذا الحرج العظيم.
هذا وقد ورد في الأحاديث الموافقة لأصول الدين وسماحته ما يدل على أن الخطأ والنسيان غير مؤاخذ به , ومثلهما الإكراه وقد قال تعالى : [ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ ]( المائدة : 89 ) أي بتوثيقها بالقصد والنية الصحيحة والطلاق من قَبِيل الأيمان .