فن الوقف والابتداء فن جليل يعرف به كيف أداء القرآن الكريم، وقد أفرده الكثير من علماء المسلمين بالتصانيف مثل أبي جعفر النحاس وابن الأنباري والزجاج والداني، و يترتب على معرفة الوقف والابتداء الكثير من الفوائد واستنباطات غزيرة وبه تتبين معانى الآيات الكريمة.
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي:
1ـ الذي أرجحه في الآية الكريمة من سورة يوسف: (قل هذه سَبِيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني): أن فقرة (أدعو إلى الله على بَصِيرة أنا ومن اتَّبَعَني) جملة واحدة، وهي جملة تفسيرية للجملة قبلها (هذه سبيلي) فهو يشرح هذه السبيل بأنها: الدعوة إلى الله على بصيرة هو وكل من آمن به واتبعه. فضمير(أنا) في الآية تأكيد لفاعل(أدعو)، وليس مبتدأ لخبر مقدم هو (على بصيرة )، والصحيح أن تعرب (على بصيرة) على أنها حال من فاعل (أدعـو).
ولو جعلت هذه الفقرة جملتين: الأولى: (أدعو إلى الله)، الثانية(على بصيرة أنا ومن اتبعني) لأخل ذلك بمعنيين كبيرين:
الأول:ربط الدعوة بهذا الوصف الجميل: (على بصيرة) وهذا الربط لا يتأتى إلا بربط الفقرة كلها، وجعلها جملة واحدة، وعدم الوقف على قوله (إلى الله)؛ لأن (على بصيرة) ستكون خبرًا مقدمًا للمبتدأ بعدها، وهو الضمير والمعطوف عليه (أنا ومن اتبعني).
الثاني:جعل الدعوة إلى الله على بصيرة من أوصاف الاتباع أيضًا، فكل من اتبع النبي ـ ﷺ ـ فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة وبالوقف على (إلى الله) ينفصل الاتباع عن الدعوة، وتنفصل الدعوة عن البصيرة.
لهذا أرجح كل الترجيح عدم الوقف على قوله: (إلى الله)، وقراءة الفقرة كلها متصلة (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
2ـ كما أرجح في الآية الأخرى من سورة يوسف: الوقوف عند قوله: (اليوم) وبهذا يرتبط هذا الظرف بالتثريب قبله، لا بالمغفرة بعده، فيوسف يقول لإخوته بعد اعترافهم بخطئهم وإثمهم: (لا تثريب عليكم اليوم) ثم يدعو لهم بقوله: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
ولو كان الوقف على قوله (عليكم) لكان لفظ (اليوم) ظرفًا لفعل (يغفر)، وكان بذلك خبرًا لا دعاء، وكان هذا جزمًا من يوسف بأن الله يغفر لهم اليوم، مع أن اللائق بالموقف أن يكون دعاء ورجاء منه ويؤيده قولهم لأبيهم بعد ذلك: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال سوف أستغفر لكم ربي) (يوسف: 97، 98).
ولو كانت الجملة خبرًا لا دعاء لم يكن هناك معنى لطلب الاستغفار من أبيهم مرة أخرى، بعد أن أخبرهم الصديق بأن الله يغفر لهم اليوم.
قال الألوسي: وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على (اليوم) وهو ظاهر في عدم تعلقه بـ (يغفر) وهو اختيار الطبري وابن إسحاق وغيرهم، وهو الذي يميل إليه الذوق ا هـ.
3ـ وأما آية سورة الحديد: (والذين آمَنوُا بالله ورسله أولئك هم الصِّـدِّيقون والشـهداء عند ربهـم لهم أجرهم ونورهـم والذين كفروا وكذبوا بآياتنـا أولئك أصـحاب الجحيم) فالذي أرجحه عدم الوقف على كلمة (الصديقون)؛ لأن (الشهداء) معطوف عليها. هي خبر عن المبتدأ الثاني (أولئك)المشار به إلى (الذين آمنوا بالله ورسله) وشبه الجملة (عند ربهم) حال.
فالله تعالى يخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وبأن لهم أجرهم ونورهم.
بخلاف الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فأولئك أصحاب الجحيم.
فالقسمة إذن ثنائية: المؤمنون بالله ورسله، وهم أصحاب الجنة، والكفرة المكذبون، وهم أصحاب الجحيم.
وقد استظهر أبو حيان في تفسيره كون الشهداء مبتدأ، وما بعده خبرًا، ورده الألوسـي قائلاً: ومن أنصـف يعلم أنه ليس كـما قـال، وأن الذي تقتضـيه جزالة النظم الكريم خلافه.
ومما يرجح ما قاله الألوسي قوله تعالى بعد ذلك بآية واحدة: (سَابِقوا إلى مَغفرة من ربكم وجَنّة عَرْضُها كَعَرْض السماء والأرض أُعِدَّت للذين آمنُوا بالله ورسله ذلك فـضل الله يؤتيه من يشاء) (الحديد: 21)
مما يدل على أن السورة تدور على فضل الإيمان بالله ورسله، وفضل المؤمنين وعظيم جزائهم ومنزلتهم عند الله، فهم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم، وليس الشهداء قسـمًا آخــر.
على أنه لو قيل بالوقف على ” الصديقون” واستأنف الكلام عن الشهداء على اعتبار ما لهم من منزلة خاصة، لاقتضى هذا أن يكون الشهداء أفضل من الصديقين، بدليل تخصيصهم بأن لهم وحدهم أجرهم ونورهم. والمعروف خلافه، وهو: أن أفضل الناس بعد النبيين هم الصديقون، ويليهم الشهداء وهو الترتيب الذي يشير إليه قوله تعالى: (ومن يُطِع الله والرسول فأولئك مع الذين أنْعَمَ الله عليهم من النبيين والصِّـدِّيقين والشُّهدَاءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفِيقًا) (النساء: 69).