البدعة نوع من أنواع المعصية تستوجب التوبة والاستغفار، غير أن التوبة من البدعة أشق من التوبة من المعاصي الأخرى؛ لأن صاحب البدعة لا يشعر أنه على خطر، بل يظن صحة ما ذهب إليه، والبدع في جملتها تتنوع إلى بدع في الفكر والاعتقاد كالإرجاء والعلمانية وغيرها، وبدع في السلوك والعمل كالتقرب إلى الله بما لم يشرعه كالأربعينات ونحوها التي تجدد فيها الأحزان على الميت، وهناك البدعة التركية التي لا تقل خطرا عن سابقتها مثل ترك الأطعمة المشروعة تنطعا على وجه التعبد، والبدع تتفاوت فيما بينها تفاوتا كبيرا، فبعضها يصل إلى الكفر،وبعضها لا يعدو عن كونه معصية من المعاصي.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
تنقسم الذنوب فيما تنقسم إلى معاص وبدع، وكل منهما ارتكاب لما يسخط الله تعالى، وشرود عن صراطه المستقيم.
وقد جاء في الحديث الشريف الذي رَواهُ العرباض بن سارية أن النبي ﷺ قال: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (رَواهُ أحمدُ وأبو داود والتّرمذيُّ وقال:حسن صحيح، وهو من أحاديث الأربعين النووية).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا (أي في ديننا) ما ليس منه فهو رد)) (متفق عليه عن عائشة) أي مردود عليه، غير مقبول منه، لأنه تقرب إلى الله بما لم يأمر به، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله .
فالتعبد في الإسلام يقوم على دعامتين أساسيتين:
الأولى: ألا يعبد إلا الله.
والثانية: ألا يعبد الله إلا بما شرعه.
والمبتدع عبد الله تعالى بما لم يشرعه.
والتوبة من البدع واجبة، كالتوبة من جميع المعاصي.
وقد قال السلف: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن مرتكب المعصية يشعر أنه اقترف ذنبًا ومخالفة لأمر الله، بخلاف فاعل البدعة.
بل الحقيقة أن البدع نوع من المعاصي، ولكنها معاص لها صفة خاصة، إن مرتكبيها يتقربون إلى الله بفعلها، ويعتقدون في أنفسهم أنهم بهذه البدع أقرب إلى الله تعالى ممن ينكرونها عليهم.
وهذا هو خطر البدعة حقًا؛ فإن صاحبها ينطبق عليه قوله الله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) (فاطر: 8).
وقوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 104).
ولهذا كانت خشية السلف من البدعة أكبر من خشيتهم من المعصية، وكان تحذيرهم من البدعة أشد، لأن صاحب المعصية سرعان ما يتوب من معصيته، فهو يعلم أنها معصية، وهي تؤرقه وتعذب ضميره، ويظل هذا الألم النفسي، وهذا التعذيب الوجداني يصاحبه، حتى يتحول إلى ثورة على حياته، وهذه الثورة هي التوبة.
أما صاحب البدعة، فهو مستريح إلى سلوكه، راض عن نفسه، لا يشعر بألم الذنب، لأنه في نظر نفسه غير مذنب، ولا مخالف، بل هو متعبد، وربما مبالغ في العبادة، بل ربما كانت عبادته الظاهرة أكثر وأعظم من عبادات الكثيرين من المتدينين، كما جاء في الحديث عن
الخوارج: ((يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم)) (متفق عليه).
أما عن أنواع البدعة – كما هو معلوم – بدعتان، أو نوعان:-
الأولى: بدعة قولية أو اعتقادية، أو بتعبير عصرنا: فكرية، تمثل انحرافًا في الاعتقاد أو في الفكر عن المنهج السوي الذي جاء به القرآن والسنة، واستقر عليه سلف الأمة، وخير قرونها، وهي شر النوعين وأخطرهما.
وذلك مثل بدع الفرق الإسلامية المنحرفة عن السنة والجماعة، مثل الخوارج والجبرية والقدرية والمرجئة، وغيرهم، على تفاوت بينهم في مدى التقرب أو البعد من حقيقة الإسلام، ونهجه القويم في العقيدة والسلوك، ومثل الدعوة إلى العلمانية في عصرنا، والقول بأن لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، والدعوة إلى إلغاء الطلاق، وتعدد الزوجات، أو إلى التسوية بين الابن والبنت في الميراث.
وبعض هذه البدع قد يغلظ ويكبر، حتى ينتهي إلى درجة الكفر، والعياذ بالله.
فالقول بأن البعث في الآخر روحاني لا جسماني، وإنه لا توجد جنة حسية، ولا نار حسية، ولا نعيم مادي، ولا عذاب مادي.
أو القول بأن الله لا يعلم جزئيات ما يجرى في الكون.
أو القول بحلول الله في بعض خلقه، أو بعدم الثنائية في الوجود، بمعنى أنه لا يوجد خالق ومخلوق، ورب ومربوب، وعابد ومعبود، إنما هو وجود واحد.
وهو ظاهر ما ذهب إليه الحلاج في نظرية الحلول، وابن عربي في نظرية وحدة الوجود.
وقول بعض الناس في عصرنا: إن القرآن بمجرد نزوله انتقل من الإلهية إلى البشرية، وأصبح نصًا بشريًا ! وقول بعضهم بالتسوية بين الأولاد في الميراث لا فرق بين ذكر وأنثى.
والنوع الثاني هو: البدعة العملية كأن يخترع عبادة من عنده لم يشرعها الله ولا رسوله، أو يضيف إلى العبادة المشروعة ما ليس منها مثل (صلاة الرغائب) التي ابتدعها بعض الناس في أول كل شهر رجب. :
ومثل الصيام عن الكلام تعبدًا، أو الصيام عن أكل اللحوم أو كل ما كان من ذي روح، تعبدًا وتقربًا إلى الله، مثل أكل البيض وشرب اللبن، وتناول منتجات الألبان.
ومثل الصيام أو الإمساك عن الطعام والشراب قبل الفجر بثلث ساعة أو عشر دقائق، أو نحو ذلك احتياطًا، أو الإمساك عن المبادرة إلى الإفطار بعد المغرب مبالغة في الاحتياط.
والبدعة العملية قسمان أيضًا: إيجابية وسلبية، وبعبارة أخرى: فعلية وتركية، والفعلية هي التي تتناول عملاً بالفعل، مثل الصلاة والصيام أو الذكر، وغير ذلك مما يقترب به إلى الله، وهو غير مشروع، ويدخل فيما شرع من الدين مما لم يأذن به الله سبحانه.
والبدعةالتركية: ما كانت تركًا لعمل مشروع، واجب أو مستحب أو مباح، وذلك مثل ترك الزواج أو ترك النوم بالليل، أو ترك الإفطار في بعض الأيام – مثل الثلاثة الذين أنكر عليهم النبي ﷺ الذين قال أحدهم: أنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثاني: أنا أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل الناس فلا أتزوج… فبلغ النبي ﷺ مقالتهم، فخطبهم قائلاً: إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)). متفق عليه عن أنس.