عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ” فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ” قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟” قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: “فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا. أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟” قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: “فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا” متفق عليه.
وهاج الكائدون وماجوا، وصاحوا: إن الإسلام يفرّق بين الرجل والمرأة، وجعل المرأة نصف الرجل، وجعلها ناقصة عقل ودين، ونحن إذ ندلف إلى دراسة هذا الحديث لا ندخل فيه بنيّة الدفاع أو الخجل مما جاء في هذا الحديث.
ونحب أن نركّز على بعض الجوانب الأساسية في هذا الحديث وفي الأحاديث الصحيحة عامة:
أولاً: إذا صحّ الحديث فلا داعي للخجل منه، لأنه من صميم الإسلام، ويجب التسليم به، والتصديق الكامل بما فيه، ومحاولة فهمه فهمًا صحيحًا، ولا يكن في صدورنا أي حرج من هذا، وإلا دخلْنا تحت طائلة لا قِبَل لنا بها، فالتسليم والتصديق أولاً، ومحاولة الفهم ثانيًا.
ثانيًا: المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث: “مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ”.
ودراسة النص وتأمُّله ينبغي أن تنصبّ على أسباب ورود الحديث، وإلى من كان يوجَّه هذا الحديث، وإلى الصياغة التي صيغ بها الحديث.
فمن ناحية المناسبة.. فقد قيل هذا الحديث وقت عيد فطر أو أضحى في موعظة خاصة للنساء، فهل نتوقع من الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم أن ينقص من شأن النساء وقدرهن في مثل هذه المناسبة السارة البهيجة؟!، فالمناسبة كما نعرف من مقتضياتها اللطف والمداعبة، وذلك بقرينة سؤال النساء للرسول -ﷺ-: “وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا؟”.
وأما من ناحية من وُجِّه إليهن هذا الحديث فقد كنَّ بعض نساء المدينة، وغالبهن من الأنصاريات اللاتي قال فيهن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: “وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ”.
وهذا يبيِّن السبب الذي من أجله قال الرسول الكريم -ﷺ-: “مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ.
أما من ناحية الصياغة فصياغة الحديث ليست صياغة تقرير قاعدة عامة أو حكم شامل، وإنما هي أقرب إلى صيغة التعجب من صفة التناقض القائم في نساء الأنصار، فهن الضعيفات وقد تغلبن على الرجال ذوي الحزم، فالتعجب هنا من حكمة الله، ومن هنا كان استنتاجنا أن الرسول الكريم في هذه المناسبة قد مهّد بملاطفة النساء ملاطفة عامة، ومهّد تمهيدًا يفتح القلوب والنفوس للعظة القادمة، ولذلك جاءت كلمة “نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ” مرة واحدة ولم تجيء مستقلة في صيغة تقريرية؛ سواء أمام النساء أم الرجال.
ثالثًا: الاحتمالات الواردة في فهم قول رسول الله –ﷺ- “نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ”، وهذه الاحتمالات هي:
أ- نقص فطري عام في مستوى الذكاء والاستيعاب والفهم، وفي جميع العمليات العقلية المعروفة.. وهذا الاحتمال مستبعد بالاستقراء والملاحظة والتاريخ العريض الذي يشهد لهن بعكس ذلك.
ب- نقص فطري في بعض القدرات العقلية الخاصة مثل الفهم العميق، وقوة التحليل، والإدراك الشامل، وهذا أيضًا مستبعد لنفس الأسباب.
ج- نقص عارض مؤقّت نتيجة للتغيّرات الطبيعية في حالة الحيض أو الحمل أو غير ذلك من عوارض النساء، أو نقص عارض طويل المدى، وهو يطرأ على المرأة نتيجة ظروف الحياة العامة كالانشغال الدائم بالحمل والولادة والرضاعة وتربية الأولاد ومراعاة الزوج ومراعاة البيت، مما قد يؤدّي في بعض الأحيان إلى نقصان الوعي التام بالحياة الخارجية، وضعف الإدراك الشامل للأمور العامة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية.
وصياغة الحديث اعتمادًا على الفهم السابق توحي بأن الاحتمال الثالث هو الأولى بمراد الرسول الكريم، والمثال أو السبب الذي ضربه الرسول الكريم -ﷺ- على نقصان العقل يساعد على ترجيح النقص العارض، أيًا كان مجال النقص، فهو لا يخدش قواها العقلية وقدرتها على تحمل المسئولية الأساسية المنوطة بها، والمسئوليات التي تشترك فيها مع الرجل، مثل المسئولية الإنسانية العامة أمام الله، والمسئولية الجنائية وتحمل العقوبات الجزائية والحدود، والمسئولية المدنية، وحق التصرف في الأموال وعقد العقود، والوصاية على القُصر، ومسئولية العلم ورواية الأحاديث، ومسئولية القضاء في الأموال كما قرّرها أبو حنيفة -رضي الله عنه-.
ونظرًا لأن الحديث يشير إلى نقص الشهادة فمن الأفضل نقل أقوال الفقهاء حول شهادة المرأة:
فقد ورد في فتح الباري: “قال ابن المنذر: أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخصّ الجمهور ذلك بالديون والأموال، وقالوا: لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء؛ منعها الجمهور وأجازها الكوفيون.. واتفقوا على قبول شهادتهن فيما لا يطّلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال، وعيوب النساء، واختلفوا في الرضاع”.
وقال ابن رشد: “فالذي عليه الجمهور أنه لا تُقبل شهادة النساء في الحدود، وقال أهل الظاهر: تقبل شهادتهن إذا كان معهن رجل، وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية، وقال أبو حنيفة: تقبل شهادتهن في الأموال، وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان؛ مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق، ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن، وأما شهادة النساء مفردات –أعني النساء دون الرجال- فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطّلع عليها الرجال غالبًا مثل الولادة والاستهلال، وعيوب النساء، ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع”.
وقال ابن حزم في المحلَّى: “ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلاً واحدًا وست نسوة، أو ثماني نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء وما فيه القصاص والنكاح والطلاق والرجعة والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان، كذلك أو أربع نسوة كذلك، وتقبل في كل ذلك حاشا الحدود رجل واحد عدل أو امرأتان كذلك مع يمين الطالب، ويقبل في الرضاع وحده امرأة واحدة عدلة أو رجل واحد عدل.
وقد رأى رأي ابن حزم هذا في شهادة المرأة بعض العلماء المعاصرين، ومنهم الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه “مائة سؤال عن الإسلام” ج2، ص261، 262، وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فتاوى معاصرة، الحلقة الثانية.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: “قال شيخنا ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) فيه دليل على استشهاد امرأتين مكان رجل، إنما هو لتذكير إحداهما الأخرى إذا ضلّت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط.. فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات، إنما هي أشياء تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها بأذنها من غير توقّف على عقل كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمال عقل كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدَّين وغيره، فإن هذه معانٍ معقولة، ويطول العهد بها في الجملة، وإذا قرر هذا فإنه تقبل شهادة الرجل والمرأتين في كل موضع تقبل فيه شهادة الرجل ويمين الطالب، وقال عطاء وحماد بن أبي سليمان: تُقبل شهادة رجل وامرأتين في الحدود والقصاص، ويقضي بها عندنا في النكاح والعتاق على إحدى الروايتين، وروى ذلك عن جابر بن زيد وإياس بن معاوية والشعبي والثوري وأصحاب الرأي، وكذلك في الجنايات الموجبة للمال على إحدى الروايتين”.
ويقول ابن القيم أيضًا: “والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة، إلا أنها لمّا خيف عليها السهو والنسيان قُويت بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله، ولا ريب أن الظن المستفاد من شهادة مثل أمِّ الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من رجل واحد دونهما أو دون أمثالهما.
والحديث عن شهادة المرأة يحتاج إلى بحث مستقلّ، فنقتصر على هذه الأقوال الفقهية من الفقهاء الذي فهموا النصوص جيدًا، ووضعوها موضعها الصحيح من المواقف الحياتية، والتي نحن في أمسّ الحاجة إليها الآن، في أمس الحاجة إلى من يفهم النصوص القرآنية والنبوية فهمًا عميقًا مسترشدًا بفهم السلف الصالح، ومنزلاً كل ذلك على الواقع الحياتي الذي نعيش فيه الآن، ما أحوجنا إلى مثل هؤلاء العلماء كي يعطوا لنا الفهم الصحيح والحل السليم لكل مشكلاتنا المعاصرة من خلال نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح.
رابعًا: دلالة قوله -ﷺ- “نَاقِصَاتِ … دِينٍ”، وتفسيره لها بأنه أمر محدد وهو نقصان الصيام والصلاة في أيام الحيض والنفاس، فهو نقص جزئي محصور في العبادات، بل في بعضها فقط، وهو نقص مؤقّت وليس بدائم في حياة المرأة كلها، وكذلك هو غير موجود عند المرأة التي يئست، والمرأة المؤمنة إذا صبرت على هذا الابتلاء فهي مأجورة، ومن الممكن أن تعوِّض ذلك بالاستماع إلى القرآن والدعاء والذكر الخاشع، والتنفُّل بكثرة بعد الطُّهر.
ومن خلال ما سبق من دراستنا لهذا الحديث نجد أنفسنا ملزمين بالوقوف عند حدود تفسير الرسول الكريم -ﷺ- لمعنى النقص، ولا نتعدّاه بأي حال من الأحوال، أما إذا تجاوزنا هذا التفسير وهذه الحدود فسندخل في متاهات الاحتمالات، ونقع في المتشابه المنهي عن الخوض فيه، فيجب علينا الالتزام بالصحيح من الأحاديث التي تصف المرأة، ولا نجري وراء أحاديث ضعيفة وموضوعة نسبت إلى رسول الله وإلى صحابته الكرام>
ومن هذه الأحاديث ما أورده الشيخ ناصر الألباني في كتابه “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” مثل:
1- حديث “لا تعلموهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف”.
2- حديث: “طاعة المرأة ندامة” رقم 435 في السلسلة.
3- حديث: “لولا النساء لعبد الله حقًا حقًا” رقم 56.
4- حديث: “شاوروهن وخالفوهن” رقم 430.
5- حديث: “هلكت الرجال حين أطاعت النساء” رقم 436.
6- حديث: “أعدى عدوك زوجتك” ضعيف الجامع الصغير رقم 1033.
7- أثر موقوف على عمر بن الخطاب “خالفوا النساء فإن في خلافهن بركة”.
وغير ذلك من الأحاديث والأقوال التي شانت الإسلام، وصاغت عقول المسلمين صياغة غير صحيحة، وأعطت صورة للمرأة غير الصورة التي أرادها لها الإسلام، فعلينا بلزوم الصحيح من الأحاديث مع الفهم الصحيح أيضًا لهذه الأحاديث.
والله أعلم.