الظاهر من كلمة (تجري) التحرك والانتقال من مكان إلى آخر. كما أن الظاهر من كلمة (تدور) اللف حول شيء مُعين، وهذا الشيء المُعين قد يكون هو المحور مع عدم الانتقال منه، وقد يكون فيه انتقال من مكان إلى آخر مع الالتزام بمركز يحدث حوله هذا الانتقال.
وكلمة (الفلك) معناها المسار أو المدار الذي يتحرك فيه الشيء، وقد يكون التحرك في خط مستقيم أو خط دائري يكون مُحيطًا له مركز قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (الأنبياء : 33).
والظاهر أن كلمة (كُلّ) تعني بمجموع الليل والنهار والشمس والقمر بدليل الجمع في قوله (يَسْبَحُونَ) فكيف نتصور الفلك الذي يسبح فيه الليل والنهار؟
إن معرفتنا لا تزال محدودة، وكلما اكتشف علماء اليوم جديدًا عرفوا أنهم كانوا يجهلون كثيرًا، وألفاظ اللغة العربية فيها من المرونة والصلاحية ما لا يستطيع الإنسان معه أن يجزم بمعنى ينطبق على شيء نجهل من حقيقته كثيرًا.
إن “المُستقر” الذي تجرى له الشمس في قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) (سورة يس: 38).
هل المراد به المحور الذي تدور حوله الشمس كما تدور الأرض حول محورها، أو المراد به المدار والمسار الذي تلتزمه وهي تتحرك من مكان إلى آخر، وإلى أين هذا التحرك، هل هو محيط أو في خط مستقيم.
كل ذلك قال به المُفسرون والعلماء. دون جَزْمٍ بأحد هذه المعاني. وقد يُقال : إن المستقر هو نهاية الحركة والجري؛ فالشمس سيأتي عليها وقت تقف فيه عن الجري وهو يوم القيامة، فاللام في (لمستقر) بمعنى “إلى” التي تفيد الغاية… قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (سورة يس : 40).
وهذا يدُل على أن لكل من الشمس والقمر سبحًا وجريانًا في مدار ومسار وانتقال من مكان إلى مكان: ثم قال بعد ذلك : (واَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) (سورة يس : 38).
فالظاهر أنها تلتزم مسارها وهو الفلك بحيث لا نتجاوزه إلى مسار آخر حتى لا تصطدم بالكوكب أو النجم الذي يجري في هذا المسار، وحتى لا تدرك القمر إن جرت في مداره، فالكل يتحرك بنظام ثابت دقيق.
وقد يُراد أن الشمس على الرغم من كبر حجمها والجد في جريانها بحيث لا تدرك القمر سيأتي عليها وقت تكف فيه عن الحركة بأمر الله الذي يقع كل شيء تحت سلطانه وقهره.
هذا تفسير بالمعقول، أما التفسير بالمنقول فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله ـ ﷺ ـ عن قوله عز وجل: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) (سورة يس : 38).
فقال: “مستقرها تحت العرش” وفي رواية لمسلم عن أبي ذر أيضًا أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “أتدرون أين تذهب هذه الشمس”؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “إن هذه الشمس تجري حتى تنتهي إلى مُستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يُقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يُقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها” فقال رسول الله ـ ﷺ ـ “أتدرون متى ذلكم”؟
“ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا”.
وجاءت هذه الرواية في صحيح البخاري عن أبي ذر أيضًا بما يفيد أن مُسْتقر الشَّمس كل يوم هو تحت العرش حيث تسجد وتستأذن ربها بالجري فيأذن لها حتى يكون آخر إذن بها بالشروق من الغرب.
إن الإنسان لا يستطيع بسهولة أن يفهم معنى الاستقرار تحت العرش، فالشمس دائمًا في حركة إن غابت عن بعض أجزاء الأرض فهي ظاهرة للبعض الآخر، ولم يشاهد أحد من الدنيا أنها توقفت عن الحركة… أو لا يجوز أن نفسر استقرارها تحت العرش، بأنها في كل أوقاتها خاضعة لأمر الله، لا تتحرك إلا بإذنه، وتستمر حركاتها إلى أن تستقر نهائيًا في آخر الدنيا؟