العقوبات في الشريعة [الحدود] توقيفية، والله سبحانه وتعالى له حكمة من هذه الحدود فجعل حد السرقة قطع آلة السرقة وهي اليد بخلاف حد الزنا لم يكن فيه قطع لآلة الزنا وهي الفرج، بل فيه الجلد أو الرجم.
والكفر وهو أبشع من الزنا لم يجعل الله في الرمي به حدًّا مقرراـ وإن كان رمي الناس بالكفردون برهان من المحرمات المجمع عليهاـ بل جعل في الرمي بالزنا الحد، فالحدود في الإسلام توقيفية قد اشتملت على مصالح العباد.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين:
من المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب.
فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطهرةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة …
وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقيئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم وهي البينة، واشترط فيها العدالة وعدم التهمة، فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك، ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة.