يقول الأستاذ الدكتور محمد داود أستاذ الدراسات الإسلامية واللغوية بجامعة قناة السويس، بمصر.
الشُبَه التي تثارُ ضد القرآن هي مزاعم تتهاوى بمعرفة الحقيقة التي وقعت بالفعل، ولا يجب أن نستمع لهذه الخيالات المزعومة التي هي من خيال هؤلاء الملحدين.
شبهة أن القرآن جمع من صدور الرجال
زعمهم أن جمع القرآن من صدور الرجال، وأنّ كل واحدٍ من الحفظة صاغ ما يحفظه بلغته وتمت كتابة القرآن بلغة قريش.
-هذا الزعم غير صحيح؛ لأن القرآن اكتمل في صدر سيدنا رسول الله ـ ﷺ ـ أولاً وراجعه على جبريل ـ عليه السلام ـ مرات حتى كان العام الذى توفي فيه ـ ﷺ ـ وراجعه على يد أخيه جبريل مرتين.
-وكان النبي ـ ﷺ ـ حريصًا على متابعة الوحي (جبريل ـ عليه السلام ـ) في كل لفظة ينطق بـها، وطمأن الله نبيه بأنَّ الله سَيَمُن ويتفضل على رسوله الكريم بحفظ القرآن في صدره ـ ﷺ ـ دون تغيير أو تبديل قال تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) القيامة/18:16.
-كما طمأن الله تعالى نبيه ـ ﷺ ـ بأنه لن ينسى شيئًا من القرآن، قال الله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ) الأعلى/6.
-وراجع النبي ـ ﷺ ـ ما أُنزل عليه من قرآن على أخيه جبريل كلمة كلمة ولفظة لفظة بحسب ترتيبها ونطقها دون حذف ولا تقديم ولا تأخير، أي بدون تدخل من شخصه ـ ﷺ ـ .
-ولذلك شاءت إرادة الله أن يكون الرسول ـ ﷺ ـ أميًّا لا يقرأ ولا يكتب.
-فالنص القرآني نص سمعي ينتقل شفاهة بأصوات مقننة من عهد رسول الله ـ ﷺ ـ حتى اللحظة التي نعيشها الآن بالسماع، حتى إنَّ كل مُعلِّم للقرآن لا تتم إجازته إلا بالتلقى المباشر ولا تكفي القراءة في المصحف للتعليم، حتى إنك تستطيع أن تقول إنًّ المعلم حين يعلم القرآن يحاكي نطق رسول الله ـ ﷺ ـ للآيات القرآنية كما أنزلها الله عليه.
-وتتأكد لنا هذه الحقيقة بأنَّ القرآن المحفوظ في صدور المسلمين لا يختلف عليه اثنان، إذ من معجزات القرآن في حفظه أن النسخة التي لا يمكن أن تتبدل أو تتغير هي النسخة المحفوظة في صدور المسلمين، والتي تنتقل من جيل إلى جيل بأصوات مقننة وبأداء مقنن، ثم تأتي صور الحفظ الأخرى المكتوبة في صور مختلفة.
-إذًا ليس صحيحًا ما زعموه أن كل صحابي صاغ ما معه من قرآن بلغته، بل هذه فرية وجهالة.
-ويزداد الأمر وضوحًا حين نعلم أن عملية جمع القرآن من صدور الصحابة كانت مطابقة لما حفظوه عن رسول الله ـ ﷺ ـ فلا تؤخذ آية لتسجل في المصحف إلا بشهادة شاهدين من صحابة رسول الله ـ ﷺ ـ .
شبهة أن المعوذتين ليستا من القرآن
أما بشأن زعمهم عن رواية عبد الله بن مسعود بأن المعوذتين ليستا من القرآن، فليعلم كل عاقل أن كل ما خالف المصحف الإمام (الذي جمعه عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ) باطلٌ باطل؛ لأن هذا المصحف ظفر بإجماع كل الصحابة بلا استثناء ومنهم عبد الله بن مسعود، وإلى عبد الله بن مسعود ترتقي قراءة من قرأ عليه من القرّاء السبعة (راجع بتفصيل: تاريخ القرآن للدكتور/ عبد الصبور شاهين).
وقال الإمام علي : «ما فعل عثمان ما فعل إلا عن ملأ منا ولو وُليت ما وُلي لفعلت ما فعل» .
فلا معنى بعد ذلك لإثارة شبه تستند إلى روايات أحاديث باطلة تتعارض مع إجماع الصحابة، بل وتتعارض مع أقوال عبد الله بن مسعود نفسه عن القرآن!
شبهة أن القرآن ليس هو الوحيد المحفوظ
أما عن زعمهم بأن القرآن ليس الوحيد الذي تفرد بتعهد الله بحفظه في قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر/9، فإنجيل متى يقول: «إلى أن تزول الأرض والسماء لن يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة».
وهنا ينبغي أن نوضح جملة من الحقائق حتى يزول اللبس ويدفع الوهم:
-إن واقع النص القرآني يشهد بأنه ليست عندنا مصاحف مختلفة فيها زيادة أو نقصان، كما هو الحال في الأناجيل المختلفة التي يصل حجم الحذف والزيادة في بعضها إلى أكثر من ثلاثين إصحاحًا.. بالإضافة إلى وجود نصوص مختلفة في لغات مختلفة فيها الزيادة والنقصان..
ولا يوجد هذا في القرآن؛ لأنه ليس للقرآن إلا نص واحد بالعربية، والترجمات إنما هي ترجمة للمعاني والمفاهيم.
-يضاف إلى هذا أمر حاسم في هذه المسألة وهو أن لرجال الدين في الكنيسة سلطة التغيير في نص التوراة والإنجيل بما يتوافق مع ظروف كل عصر، ولا توجد هذه السلطة لرجال الدين في الإسلام.
-حتى إن سلطة التغيير في النص القرآني ليست للنبي ـ ﷺ ـ نفسه، قال الله تعالى:
( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يونس/15.
شبهة أن نصوص الصينيين والهنود محفوظة من الزوال
أما بشأن بقاء النصوص القديمة للصينيين والهنود محفوظة من الزوال، فهي محفوظة بروايات متعددة نالتها أيدي البشر بالحذف والنقصان والتحريف والتصحيف، ولذلك تعددت رواياتـها.
-أما القرآن فهو المتفرد بين كل هذه الكتب بأنه نص واحد وليست له روايات ولا يتغير ولا يتبدل على مر الزمان، وهو الكتاب الذي يحفظه أهله في صدورهم، وكل كتاب غيره لا يحفظه أهله في صدورهم، وإنما هو في بطون الكتب يناله ما ينال الكتب من عبث.. فليس هذا كذاك.
ولا يقبل عاقل زعمهم بأن شعر المتنبي وكتب الجاحظ ودواوين نزار قباني محفوظة، فما الفرق؟!
الفارق واضح: إن هذه الكتب محفوظة في روايات مختلفة يأتي عليها الزيادة والنقصان، غير مصونة من التحريف والتبديل بفعل النساخ والشراح والمصححين، وتتراكم هذه التحريفات من جيل إلى جيل، والواقع خير شاهد ودليل.. ولننظر إلى روايات شعر المتنبي لنرى النقص والزيادة فيها، ونرى المنتحل من شعره وغير المنتحل.
وخلاصة القول أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ظل منذ لحظة نزوله حتى الآن مصونًا عن التحريف والتصحيف والحذف والإضافة، أو أن يتصرف فيه بشر ولو على مستوى درجة نطق الصوت الواحد، فلا يقبل – في القرآن – أن ينطق الحرف المفخم بترقيق، أو العكس..
ولا يكون هذا إلا في القرآن.
شبهة القراءات القرآنية صور نطقيه لكلمات واحدة جاء بـها الوحي
أما من حيث القراءات القرآنية فهي صور نطقيه لكلمات واحدة جاء بـها الوحي؛ لقول النبي ـ ﷺ ـ : «نزل القرآن على سبعة أحرف ». وليس لأحد أن يبدل أو يغير في هذه القراءات أيضًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس/ 37. وصدق الله العظيم إذ يقول:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.
وأخيرًا: أود أن نلفت الإنتباه إلى حقيقة تاريخية، وهي أن القرآن الكريم على مر التاريخ منذ لحظة نزوله قد تعرض لهجمات كثيرة في الشرق والغرب، باعتباره الركيزة الأساسية للإسلام، وكانت هذه الحملات من النصف الثاني للقرن الأول الهجري.
-حين بدأ يوحنا الدمشقي (650 -750 م) هذا الهجوم بتوجيه عدة انتقادات على النسق العام.
-ثم جاء هجوم مفصَّل شنيع على القرآن فى أعمال نيكيتاس البيزنطي..
-ثم جاء أكبر هجوم جدلي على القرآن على يد إمبراطور بيزنطة جان كنتاكوزين . وتوقف الهجوم البيزنطي على القرآن بفتح المسلمين للقسطنطينية.
-وتولت أوروبا المسيحية الأمر من بعد ذلك، ومن أشد هذه الهجمات ما كتبه لورد مراش في كتاب من مجلدين أولهما بعنوان “مقدمة في دحض القرآن” والمجلد الثانى “النص العربي للقرآن” مع ترجمة لاتينية له.
-ومع بداية القرن التاسع عشر يجتهد المستشرقون ولا يزالون في تكثيف الهجوم على القرآن الكريم، بطرح قضايا وهمية حوله، وإبراز نتائج زائفة استخلصوها من مقدمات خاطئة.
المهم.. المهم.. المهم: أن كل هذه الافتراءات والجهالات ماتت، وظل القرآن الكريم يتحدى.. لأنه كلام الله، ولأنه الحق الذى ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت/42.