أجمع أهل العلم من أمة الإسلام على أن القرآن الكريم نزل من السماء الدنيا على قلب خاتم المرسلين مفرَّقاً على فترات، استغرقت أكثر من عشرين عاماً.

قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) الفرقان : 32 ، وكان من وراء نزول القرآن مفرقاً على رسول الله مقاصد وحِكَماً، ذكر أهل العلم بعضاً منها، ونحاول الآن أن نقف على بعض تلك المقاصد والحِكَم.

من مقاصد نزول القرآن مفرقاً

تثبيت قلب النبي صلى اله عليه وسلم والمؤمنين ، والرد على شبه الكافرين أولا بأول ، وتيسير حفظه ، ومسايرته لما يستجد من أحداث ، وتأكيد أنه من عند الله تعالى؛ حيث هو متناسق لا اختلاف فيه من تباعد ما بينه في النزول.

أولا:  تثبيت قلب النبي ومواساته، لما ينتابه من مشقة تبليغ الرسالة وما يلاقيه من عنت المشركين وصدهم، فكان القرآن ينـزل عليه بين الحين والآخر تثبيتًا له وإمدادًا لمواجهة ما يلاقيه من قومه، قال تعالى مبينًا هذا المقصد: {كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} (الفرقان:32) فالمشركون بالله والمنكرون لنبوة محمد قالوا معاندين: هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة، كما نزلت التوراة والإنجيل، فردَّ الله عليهم قولهم ذلك، بأن الإنزال على تلك الصورة إنما كان لحكمة بالغة، وهي تقوية قلب النبي وتثبيته؛ لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به، ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزوله دفعة واحدة.

يقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)

يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا : ” لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ” أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله : ” وقرآنا فرقناه ” الآية ولهذا قال ” لنثبت به فؤادك “. أهـ.

ويقول الإمام القرطبي :

” لنثبت به فؤادك ” أي نقوي به قلبك فتعيه وتحمله ؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون ، والقرآن أنزل على نبي أمي ؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى للنبي , وأيسر على العامل به ؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب .

قلت : فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟ . قيل : في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة , ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه .(انتهى).

ثانيا: ثم من مقاصد تنـزيل القرآن مفرقاً الرد على شُبه المشركين أولاً بأول، ودحض حجج المبطلين، إحقاقًا للحق وإبطالاً للباطل،قال تعالى: {ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} (الفرقان:33) ففي الآية بيان لحكمة نزول القرآن مفرقاً، وهو أن المشركين كلما جاءوا بمثل أو عَرْضِ شبهة ينـزل القرآن بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم، ودحض شبههم.

ثالثا: ومن المقاصد المهمة لنزول القرآن مفرقاً تيسير حفظه على النبي صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين لم يكن لهم عهد بمثل هذا الكتاب المعجز،فهو ليس شعراً يسهل عليهم حفظه، ولا نثراً يشبه كلامهم، وإنما كان قولاً ثقيلاً في معانيه ومراميه، فكان حفظه يحتاج إلى تريُّث وتدبر وتؤدة، قال تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ ونزلناه تنـزيلاً} (الإسراء:106) أي أنزلناه على فترات لحكمة اقتضت ذلك، وهي أن نزوله مفرقاً أدعى إلى فهم السامع،. وفي قوله تعالى: {ورتلناه ترتيلاً} إشارة إلى أن تنـزيله شيئاً فشيئاً إنما كان كذلك ليتيسر حفظه وفهمه ومن ثَمَّ العمل به.

رابعا: ومن المقاصد التي أُنزل القرآن لأجلها مفرَّقاً، التدرج بمن نزل في عصرهم القرآن؛ فليس من السهل على النفس البشرية أن تتخلى عما ورثته من عادات وتقاليد،وكان عرب الجاهلية قد ورثوا كثيراً من العادات التي لا تتفق مع شريعة الإسلام، كوأد البنات، وشرب الخمر، وحرمان المرأة من الميراث، وغير ذلك من العادات التي جاء الإسلام وأبطلها، فاقتضت حكمته تعالى أن يُنـزل أحكامه الشرعية شيئاً فشيئاً، تهيئة للنفوس، وتدرجاً بها لترك ما علق بها من تلك العادات. يشير إلى هذا المعنى أن تحريم الخمر لم ينزل دفعة واحدة، بل كان على ثلاث مراحل، كما دلت على ذلك نصوص القرآن الكريم. وفي قوله تعالى: {ونزلناه تنـزيلاً} إشارة إلى أن نزوله كان شيئاً فشيئاً حسب مصالح العباد، وما تتطلبه تربيتهم الروحية والإنسانية، ليستقيم أمرهم، وليسعدوا به في الدارين.

فنزول القرآن موزعًا على السنين فيه الأخذ بسنة التدرج في الإصلاح ،والتي هو أنجع الوسائل وأنجحها في التغيير .

خامسا: ومن مقاصد نزول القرآن مفرقًا – إضافة لما سبق – مسايرة الحوادث المستجدة، والنوازل الواقعة، فقد كان القرآن ينـزل على النبي لمواكبة الوقائع الجديدة، وبيان أحكامها، قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل:89) فكثير من الآيات القرآنية نزلت على سبب أو أكثر، كقصة الثلاثة الذي تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وحادثة الإفك، وقصة المجادِلة، وغير ذلك من الآيات التي نزلت بياناً لحكم واقعة طارئة.

وقد كان النبي كثيراً ما يتوقف عن البتَّ في حكم مسألة ما حتى ينـزل عليه الوحي، من ذلك مثلاً قصة المرأة التي ورد ذكرها في سورة المجادلة، وكان زوجها قد قال لها: أنتِ علي كظهر أمي، فاشتكت إلى رسول الله قولَ زوجها، فأمرها أن تتمهل ريثما ينـزل الله في أمرها حكماً، فنـزل فيها قول الله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} إلى قوله: {والله بما تعملون خبير} (المجادلة: 2-3) فكان فيما نزل عليه تقريراً شافياً، وحكماً عادلاً، لا يسع أحد رده أو الإعراض عنه.

سادسا: وأخيراً فإن من المقاصد المهمة التي لأجلها نزل القرآن مفرقاً الدلالة على الإعجاز البياني التشريعي للقرآن الكريم، وذلك أن القرآن نزل على فترات متقطعة قد تطول وقد تقصر، ومع ذلك فنحن لم نجد اختلافاً في أسلوب بيانه، ولا خللاً في نسق نظمه، بل هو على وزان واحد من أول آية فيه إلى آخر آية منه، وهذا من أهم الدلائل على أن هذا القرآن لم يكن من عند البشر بل هو تنـزيل من رب العالمين، قال تعالى: {كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير} (هود:1) وقال سبحانه في حق كتابه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد} (42).

ومن المفيد أن نشير في نهاية المطاف إلى أن أغلب أهل العلم – المتقدمين منهم خاصة – يستعملون مصطلح “التنجيم” للدلالة على أن القرآن نزل على رسول الله مفرقاً، وأنه لم ينزل جملة واحدة.

ولا شك أن لنـزول القرآن مفرقاً مقاصد أخرى غير ما ذكرناه، وإنما اقتصرنا على أهمها.

لماذا نزل القرآن مجزأ

يقول الدكتور محمد البهي عميد كلية أصول الدين الأسبق رحمه الله :

الإسلام هي دعوة لتحويل الإنسان المادِّي أو الأنانيّ إلى مؤمن معطاء، وهذا التحول عملية نفسيَّة تقِف في طريقها عقَبات نفسية كثيرة وأخصُّها العادات والتقاليد المادِّيّة لا يُذلِّلها إلا استمرار الدعوة والانتقال بنفوس المسلمين في تدرُّج من وضع سيِّئٍ إلى وضع أقلَّ سوءًا ثمَّ إلى وضْع حَسَنٍ فأحسنَ، حتى يتِمَّ التحول وهذا التحول إذن يحتاج إلى زمن وإلى تدرُّج في السَّير نحو هدف هذه الرسالة.

ونُلاحظ هذا التدرُّج في أسلوب القرآن في الدعوة إذ يُبَغِّض أولاً في عادات المادِّيين كما يُبَغِّض في الرِّبا. ثُمَّ يرغِّب في العادات الإنسانية المقابلة، كما يرغِّب في الإنفاق في سبيل الله، ثم يأمر بالزكاة. وبينما فرض الزكاة كان في آخر سورة في الوحي وهي سورة التوبة، أي في السَّنة الثامنة في الهجرة، كان التبغيض في عادات جاهليّة في سوء استغلال المال مبكِّرًا في سورة الفجر، وهي السورة العاشرة في الوحي المكِّي قبل الهجرة، فالتحوُّل هنا في الموقف من المال هو من الحرص الشديد على المال في جمعه والشُّحّ به ولو كان عن طريق أكل حقوق الآخرين الضعفاء كالنِّساء والأولاد في مِيراثهم.. إلى إنفاق المال على الآخرين في غير مُقابل مادِّيٍّ مِن أحد، سوى القُرْبَى لله.

والتحوُّل هنا هو إذن مِن الضِّدِّ إلى الضِّدِّ تمامًا. وهذا التحول النفسيُّ يحتاج إلى تُؤَدة ووقت، كما يقع في مراحل وتطوّر. ومِن هنا كان الزمن الذي أخذه التحوُّل للمؤمنين على عهد الرسول ـ ـ هو زمن الوحيِّ كلّه، وهو ثلاث وعشرون سنة. (انتهى).