يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
أما افتراق الأمة الإسلامية فهو واقع بالفعل ، ولكن لا يوجد دليل من القرآن ولا من الحديث ؛ يدل على اليأس من اتفاقهم في الأمور العامة والأخوة الإسلامية والتعاون على مقاومة من يعاديهم كلهم ، وعلى ما ينفعهم كلهم ، وإن ظلوا مختلفين في كثير من المسائل ؛ بأن يكونوا في اختلافهم على هدي السلف الصالح في عذر بعضهم لبعض واتقاء التكفير والعدوان، وأما الحديث الوارد في الافتراق ، فقد رواه غير واحد من الحفاظ منهم أحمد وأبو داود والترمذي ، وهو في الجامع الصغير بلفظ ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ) رواه أحمد عن أبي هريرة .
أقول : ورواه الترمذي عنه بلفظ ( تفرقت ) ، ثم قال : في الباب عن سعيد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك حديث حسن صحيح ، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الجفري عن سفيان عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( ﷺ ) ( ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ؛ إلى أن قال ( ﷺ ) وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) هذا حديث حسن غريب ، مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه , اهـ كلام الترمذي .
صحة حديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة:
هذه الرواية التي تعين الفرقة الناجية بشيء من القوة في إسنادها عبد الرحمن ابن زياد الإفريقي راويها ؛ وهو قاضي إفريقية ، قال فيه الإمام أحمد : ليس بشيء نحن لا نروي عنه شيئًا ، وقال النسائي ضعيف في الثقات ، ولما نقل الذهبي عنه هذا القول قرنه بقوله : ( فأسرف ) ، وروي بأسانيد أضعف من هذه وأوهى ، فالرواية إذًا لم تخل من طعن فيها، ورواه الحاكم في صحيحه ، وما انفرد الحاكم بتصحيحه لا يسلم من مقال أيضًا ، ولكن قال في المقاصد : إن الحديث حسن صحيح يعني : بزيادة كلهم في النار إلا فرقة واحدة، ورُوي بلفظ كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة ، فسئل عنها فقال : الزنادقة والقدرية ، رواه العقيلي والدارقطني ، وهو موضوع وضعه ابن الأشرس .
وفي شرح عقيدة السفاريني ما نصه :ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة أن النبي ( ﷺ ) قال : ( ستفترق أمتي نَيِّفٌ وسبعين فرقة ، كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة ) هذا لفظ الحديث في بعض الروايات ، قال : وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته ؛ إذ قال : ( ستفترق أمتي ) ، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته ، والذين ينكرون المعاد والصانع فليسوا معترفين بنبوته ؛ إذ يزعمون أن الموت عدم محض ، وأن العالم كذلك لم يزل موجودًا بنفسه من غير صانع ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس ، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة , انتهى .
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية :أما هذا الحديث فلا أصل له بل هو موضوع كذب باتفاق أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ بل الذي في كتب السنن والمسانيد عن النبي ( ﷺ ) من وجوه أنه قال : ( ستتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار ) وروي عنه أنه قال : ( هي الجماعة ) ، وفي حديث آخر : ( هي من كان على مثل ما أنا اليوم عليه وأصحابي ) وضعفه ابن حزم ، لكن رواه الحاكم في صحيحه ، وقد رواه أبو داود والترمذي وغيرهم ، قال : وأيضًا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي ﷺ كما لا يوجد في القرآن ، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته قبولاً وردًّا ؛ فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر ) اهـ .
( قلت) : وقد ذكر الحديث الذي ذكره الغزالي الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات ، وذكر أنه رُوِيَ من حديث أنس ولفظه ( تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة ) قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : ( الزنادقة وهم القدرية ) أخرجه العقيلي و ابن عدي ورواه الطبراني أيضًا قال أنس : كنا نراهم القدرية ، قال ابن الجوزي : وضعه برد بن أشرس ، وكان واضعًا كذابًا ، وأخذه عنه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه ، وسرقه عثمان بن عفان القرشي وهؤلاء كذابون متروكون .
المراد بقول النبي كلهم في النار إلا واحدة:
وأما الحديث الذي أخبر النبي ( ﷺ ) أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار ، فروي من حديث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و أبي الدرداء و معاوية و ابن عباس و جابر و أبي أمامة و واثلة وعوف بن مالك و عمرو بن عوف المزني ، فكل هؤلاء قالوا : واحدة في الجنة وهي الجماعة ، ولفظ حديث معاوية ما تقدم ، فهو الذي ينبغي أن يعول عليه دون الحديث المكذوب على النبي ﷺ ، والله أعلم ) اهـ أورده السفاريني .
أقول :حديث معاوية الذي أشار إليه ، رواه عنه أحمد والطبراني والحاكم بلفظ ( إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة سنفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ) ، وفيه زيادة عزاها السفاريني إلى أبي داود فقط ، وهي : ( وإنه ستخرج في أمتي أقوام ، تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه ، فلا يبقى منهم عرق ولا مفصل إلا دخله ) وهذا أمثل ما رواه الحاكم من ألفاظ هذه الحديث ، وسنده لا يسلم من مقال ، ورواه بغير هذا اللفظ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ، وكثير هذا طعنوا فيه حتى قال الشافعي وأبو داود : إنه ركن من أركان الكذب ، وقال ابن حبان : له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة ، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي ؛ لأنه روى عنه حديث ( الصلح جائز بين المسلمين ) وصححه .
وجملة القول :أن تعدد طرق الحديث ، يقوي بعضها بعضًا على طريقتهم المتبعة في ذلك ، وأظن أنه لا تسلم رواية منها عن طعان أو مقال ، كما قال ابن شهاب خلافًا لمن اعتمد تصحيح الحاكم لبعضها ، وكلها مشكلة مخالفة للأحاديث الصحيحة كما يأتي .
من هي الفرقة الناجية:
أما معنى الحديث بصرف النظر عن سنده؛ فهو أن الفرقة الناجية هي الفرقة التي تتبع السنة التي كان عليها النبي ( ﷺ ) وأصحابه ؛ أي سنة السلف الصالح قبل ظهور البدع ، وهؤلاء هم الجماعة قلوا أم كثروا ، وهم لا ينحصرون في هذا الزمان بأهل مذهب معين من المذاهب المعروفة ، على أن أهل الأثر والحنابلة أقرب من غيرهم إلى السنة وأبعد عن البدعة ، وذلك أن المسائل التي اختلف فيها أهل المذاهب ، لا ينحصر الحق فيها في مذهب دون غيره ، فتارة يكون الصواب مع الأشعرية وتارة مع الماتريدية فيما يختلفان فيه ، وقل مثل هذا في خلاف المعتزلة و الشيعة وغيرهم ، وفي الفروع وسائر المذاهب ، ثم إن المنتمين إلى هذه المذاهب ليسوا متبعين لائمتها حق الاتباع ، فيكون أتباع المصيب هم الفرقة الناجية ، فالظاهر أن الناجين في كل زمان هم أهل الاتباع الذين يتقون الابتداع ، ولا يخلو المنتسبون إلى مذهب من المذاهب المعتد بها في الإسلام عن طائفة أو أفراد منهم يؤثرون السنة على كل بدعة ، ومجموعهم طائفة واحدة بجمعهم الاعتصام بالكتاب والسنة [ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ]( الواقعة : 13-14 ) .
وقد عد بعضهم هذا الحديث مشكلاً ، وتوسع الشيخ صالح المقبلي في بيان هذا الإشكال ، وحله في كتابه العلم الشامخ ، وإننا نلخص منه ما يأتي : قال : ( والإشكال في قوله كلها في النار إلا ملة ، فمن المعلوم أنهم خير الأمم وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة ، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به الأحاديث ، فكيف يتمشى هذا ؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة ، وقال : هي زيادة غير ثابتة ، وبعضهم تأول الكلام بأن الفرقة الناجية صالحوا كل فرقة ، وهو كلام منتقض ؛ لأن الصلاح إن رجع إلى محل الافتراق ، فهم فرقة واحدة لا أفراد من الفرق ، وإن رجع إلى غير ذلك فلا دخل له ؛ لأن الكلام أنهم في النار لأجل الافتراق ، وما صاروا به فرقًا ) .
( ثم إن الناس صنفوا في هذا المطلب ، وأخذوا في تعداد الفرق ؛ ليبلغوا بها إلى ثلاث وسبعين ، ثم يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية ، وإنما يصنعون ذلك لإدعاء كل منهم أنه على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ثم صرح به ﷺ ثم اتفق عليه جميع الفرق الإسلامية ، إنما ينحصر النظر فيمن الباقي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منها أدنى اختلاف ، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة ، إنما الكلام في مخالفة تُصَيِّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها ) .
( وإذا حققت ذلك ، فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل ، وفيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر ، ولكنها لم تخص معينًا من هذه الفرق التي قد تحزبت ، والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة ، حتى أدخلوا نوادر المسائل وما لا ضرر في مخالفته ، فربما لم يكن من مهمات الدين أو لم يكن من الدين في شيء ، ولكن كل تسمى باسم مدح اخترعه لنفسه ، وصاروا يجعلون المسائل شعارًا لهم من دون نظر في مكانة تلك المسألة في الدين ، و الخوارج يسمون نفوسهم الشراة ، و الأشاعرة يسمون نفوسهم أهل السنة ، والمعتزلة يسمون نفوسهم العدلية أو أهل العدل والتوحيد ؛ لأن خصمهم يثبت الصفات أمورًا مستقلة فليسوا بموحدين أو لأنهم مشبهة إما صريحًا أو إلزامًا ، ونحو ذلك مما تخبرك به كتب المقالات والكلام ، والإنصاف أن كلاًّ منهم قد اخترع ما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم ، واختلفت البدع فمن كبير وأكبر وصغير وأصغر ، وما بينهما أعنى الكبر والصغر اللغويين لا الإصلاحيين ، فذلك مما لا سبيل إليه إلا بالتوقيف ، والمفروض أن هذه أشياء مخترعة ، فكيف التوقيف على ما لم يذكر بنفي ولا إثبات إنما غايته أن يكون دخل في عموم نهي أو نحو ذلك ، فتعين الفرق ، وتعدادها فرقة فرقة ، وأنها هي التي أراد رسول الله ﷺ مما لا سبيل إليه البتة ، إنما تكلموا فيها خبطًا وجزافًا ، سهل لهم ذلك وجرأهم عليه البدعة الأولى التي خالفوا بها السنة .
هل المسلمين الآن على ما كان عليه النبي وصحبه:
فإن قلت :ومن ذا الذي بقى على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يشارك الناس في تحزبهم وابتداعهم ، قلت : أما في العصور المتقدمة فكان ذلك هو الغالب ، ومازالوا من عام إلى عام يرذلون ، وأما الآن في زمن الغربة ، فأما مَنْ يُرْجَع إليه في مسائل الدين وهم المتفقهة ففي غاية القلة ، وبذلك تصدق الغربة ؛ لأن العلماء هم المعتد بهم ، وبهم يصير الدين غريبًا أهيلاً على أنهم قد قلوا في أنفسهم ، لا تكاد تجد اليوم مدعيًا عنده بينة ، وأما الأعصار المتوسطة من المئتين إلى سبع مئة تقريبًا ، ففيها ثورة العلماء وجلة الجهابذة الحكماء وما شئت أن تأخذ منهم من خير وشر وجدته ؛ أما الخير فبتحقيق فنون العلم وبثها ، وأما الشر فبتأييد الفرقة ) ، ثم إنه قسم الناس إلى عامة وخاصة ، وقال : إن العامة ومنهم النساء والعبيد براء من البدعة ، ولا يسمون أهل السنة أيضًا بل يسمون مسلمين .
قال :( وأما الخاصة فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه ، وبلغ في تقويتها كل مبلغ ، وجعلها أصلاً يرد إليه صرائح الكتاب والسنة ، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه والتعصب ، وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها ، وحملوه ما لم يتحمله ، ولكنه إمامهم المقدم ، وهؤلاء هم المبتدعة حقًا ، لكن تختلف تلك البدعة في كونها ذات مكانة في الدين أم لا ) .
ثم ذكر أن من الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف ، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق ، وقد دس في تلك الأبحاث نقوضها لكن على وجه خفي الغرض ، ومنهم من تدرب على كلام الناس ، وعرف أوائل الأبحاث ، وحفظ كثيرًا من غثاء ما حصلوه ، ولكن أرواح البحث بينه وبينها حائل لقصور الهمة والرضا من الأوائل ، قال : ( وهؤلاء هو الأكثرون عددًا والأرذلون قدرًا ؛ فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ولا أدركوا سلامة العامة ) ، وقال : إن هؤلاء لهم حكم الابتداع ، والذين قبلهم ظاهرهم الابتداع ، ورأيه أن تعامل هذه الأقسام الثلاثة معاملة المبتدعة ، وحسابهم على الله تعالى .
قال :( ومن الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ، أقبلوا على الكتاب والسنة ، وساروا بسيرهما وسكتوا عما سكتا عنه ، وأقدموا وأحجموا بهما ، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم ، وكان تهمهم السلامة ، وحياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم ، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى وفهم معانيه على السليقة العربية والتفسيرات المروية ، ومعرفة ثبوت حديث نبوي لفظًا وحكمًا ، فهؤلاء هم السنية حقًا وهم الفرقة الناجية وإليهم العامة بأسرهم ، ومن يشاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم ) .
ثم بين أن هذا هو المخرج من الإشكال ومناقضة هذا الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة ، واحتج لذلك بحديث حذيفة في الصحيحين وسنن أبي داود ، قال : كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر ؛ مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بك بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم ) ، قلت : فهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : ( نعم وفيه دخن ) ، قلت : وما دخنه ؟ قال : ( قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر ) قلت : فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ) قلت : يا رسول الله ، فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : وإن لم يكن جماعة ولا إمام ، قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) ثم شرح المصنف هذا الحديث ، وطبقه على أحوال المسلمين إلى عصره في القرن الحادي عشر ، وأكبر العبارة فيه الأمر باعتزال جميع فرق المسلمين ، إذا لم تكن كلمتهم مجتمعة على الإمام الحق الذي يقيم الدين وينشر دعوته في العالمين .
الإسلام دين التوحيد ، وما أمر المسلمون إلا ليبعدوا إلهًا واحدًا ، ويتبعوا دينًا واحدًا ، ويقيموا لهم إمامًا واحدًا ، ويكونوا أمة واحدة لا يفرقهم نسب ولا لغة ولا وطن ، وقد نهوا عن التفرق كما نهوا عن الكفر ، ولكن ظهر الإسلام في الأميين ، فلم تكد الأمم والشعوب تتبين بعض معارفه ، حتى دخلوا فيه أفواجًا من غير دعوة منتظمة ولا مدارس مشيدة ؛ لأنهم فصلوا بعض ما عرفوا منه على كل ما كانوا يعرفون من أديانهم ، فكان هذا الإقبال السريع على الدخول فيه من أسباب تفرق أهله شيعًا ومذاهب ودولاً وأممًا [ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ]( المؤمنون : 53 ) ، تنصر أحزاب السياسة أحزاب الدين وأحزاب الدين أحزاب السياسة على حزب التوحيد ، وتفريق الموحدين حتى جنوا على التوحيد نفسه ؛ توحيد الألوهية بالتوجه إلى غير الله ودعاء سواه ، وتوحيد الربوبية بشرع ما لم يأذن به الله ، وحتى سلط الله تعالى على جميع هذه الأحزاب أعداء ، خَضَّدُوا شوكتها وزلزلوا دولتها ، فضعف الغرور بها ، وعلى قدر ضعفهم وضعفها صار بعض المسلمين يشعرون بحاجتهم إلى الاتحاد بسائر إخوانهم ، وقد صار المقتنعون بوجوب ذلك كثيرون .