مما لا شك فيه أن سبب هذه المشكلة وما شاكلها ، الجهل بالكثير من أحكام الشرع ، وعدم فقه المرء في ترتيب أولويات دينه ، ومن يفعل ذلك لم يفقه ما يلزمه تجاه من يعول ، وما أوجبه الله تعالى عليه من الحقوق والواجبات نحو أسرته ، فتراه يشتغل بالمفضول عن الفاضل ، ويقدم المهم على الأهم ، وليس هذا من صفات المسلم الناصح لدينه .

فمن المعلوم أن النفقة على أهل البيت فرض من الفروض المتعينة في رقبة الرجل ،أما الخروج من أجل الدعوة فتأتي مرتبته بعد النفقة ، وحال هذا الرجل كمثل من يقوم طوال الليل حتى تتفطر قدماه ثم ينام عن صلاة الفجر . فهل تراه موفقا.

نفقة الرجل على بيته في الكتاب والسنة والإجماع

يقول فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد:
قد أخبر الله عز وجل أن الرجال هم المنفقون على النساء ، ولذلك كانت لهم القوامة والفضل عليهن بسبب الإنفاق عليهن بالمهر والنفقة ، فقال تبارك وتعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) ، وقد دل على وجوب هذه النفقة : الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع أهل العلم والمعقول .

أما أدلة الكتاب :

-فمنها قوله تعالى : ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً ).

-ومنها قوله تعالى : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها ).

-ومنها قوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) .

وأما أدلة السنة :

-فقد وردت أحاديث كثيرة تفيد وجوب نفقة الزوج على أهله وعياله ، ومن تحت ولايته ، كما ثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال في خطبة حجة الوداع : ” اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ” رواه مسلم .

-وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول في حجة الوداع : “( ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فأما حقكم على نسائكم ، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) ” رواه الترمذي وابن ماجه .

-وفي حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا علينا ؟ قال : ” أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح الوجه ، ولا تضرب ” رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد .
قال الإمام البغوي : قال الخطابي : في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها ، وهو على قدر وسع الزوج ، وإذا جعله النبي حقاً لها فهو لازم حضر أو غاب ، فإن لم يجد في وقته كان دينا عليه كسائر الحقوق الواجبة ، سواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته ، أو لم يفرض . أ.هـ

-وعن وهب قال : إن مولى لعبد الله بن عمرو قال له : إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا ببيت المقدس ، فقال له : تركت لأهلك ما يقوتهم هذا الشهر ؟ قال : لا ، قال : فارجع إلى أهلك فاترك لهم ما يقوتهم ، فإني سمعت رسول الله يقول : ” كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ” رواه أحمد وأبو داود .
وأصله في مسلم بلفظ : ” كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ” .

-وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال : ” إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، أحفظ ذلك أم ضيع ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ” رواه ابن حبان .
-وجاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ” والله لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره ، فيبيعه ويستغني به ، ويتصدق منه خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله ، يؤتيه أو يمنعه ، وذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ” رواه مسلم وفي رواية عند أحمد : فقيل : من أعول يا رسول الله ؟ قال : امرأتك ممن تعول ” .

-وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي قال : ” إذا أعطى الله أحدكم خيراً فليبدأ بنفسه وأهل بيته ” رواه مسلم .

وأما إجماع أهل العلم :
-فقال الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره .
وما سبق من النصوص الشرعية تدل على وجوب نفقة الرجل على أهل بيته والقيام بمصالحهم ورعايتهم ، وقد ثبتت أحاديث متكاثرة عن النبي تفيد فضل هذا وأنه من الأعمال الصالحة عند الله تعالى ، كما جاء في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي قال : ” إذا أنفق المسلم نفقة على أهله ، وهو يحتسبها ، كانت صدقة له ” رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : النفقة على الأهل واجبة بالإجماع ، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه ، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر ، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ، ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع أ.هـ

وفي حديث سعد بن مالك رضي الله عن أن النبي قال له : ” إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر ، حتى اللقمة تضعها ترفعها إلى في امرأتك ” رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ” دينار تنفقه في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ـ أي في عتقها ـ ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك ” رواه مسلم .
وجاء في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر على النبي رجل ، فرأى أصحابه من جلده ونشاطه ما أعجبهم ، فقالوا : يا رسول الله ، لو كان هذا في سبيل الله ؟ قال رسول الله : إن كان خرج يسعى على أولاده صغاراً فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ” رواه الطبراني ، صحيح الجامع .

هل يجوز أن يترك الرجل بيته من أجل الدعوة

فقه السلف رحمهم الله تعالى هذا الواجب حق الفهم ، وكان نبراساً في حياتهم العملية مع أهليهم.
فلا يجوز لمسلم أن يضيّع أهله ولو زعم أنّه يُسافر في برّ وطاعة ؛ لأنّ تضييع الأهل وعدم الإنفاق عليهم حرام ، وقد تقدّمت نصيحة عبد الله بن عمرو لمن أراد أن يُقيم في بيت المقدس بأنّه يجب عليه أن يدبّر أمر نفقة أهله أولا.

إن من أعظم حقوق الزوجة والأولاد النفقة عليهم ، بل إن من أعظم القرب والطاعات التي يعملها العبد ، والنفقة تشمل : الطعام والشراب والملبس والمسكن ، وسائر ما تحتاج إليه الزوجة والأولاد لإقامة المهجة ، وقوام البدن ، وقد جاءت النصوص الشرعية ناطقة بوجوب نفقة الأسرة على الرجل وعلى أن يقوم بحفظ الأمانة التي جعلها الله في عنقه ، والمتعين في الذمة لا بد أن يقضى أولا عن غيره ، وما كان على الفور يقدم على ما هو على التراخي ، والمتعين على الرجل عدم إهمال حق أسرته و لا نفقتهم و أن يحسن رعايتهم بما تستقيم به أمورهم ، لا أن يصلح شأن غيره مهملاً لشأنه ، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون جسرا يعبر الناس عليه إلى الجنة ثم يقذف في النار .