ورد ذكر رخصة الفطر للمرض في النصوص الشرعية، لكن الفقهاء اختلفوا في اعتبار المشقة في الترخص به، فمنهم مَن رخص للمريض الفطر في رمضان مطلقًا ولو لم تلحقه مشقة، وجمهور الفقهاء على أن المرض الذي يُرخِّص في الفطر، هو المرض الشديد، الذي يَشُقُّ الصيام معه مشقة ظاهرة، وليس مطلَق المرض، والذي يُعَوَّل على قوله في المرض المُرَخِّص في الفطر، هو الطبيب الثقة، أو التجربة .
يقول أ. د عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الشريف :
إن التكاليف الشرعية، من صيام، وصلاة، وحج، ونحوها تتضمن نوعًا من المشقة، كالوضوء والاغتسال بالماء في البَرْد، والصوم في النهار الأطول، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، وهذه المشقة لا تُسقط العبادة، ولا تُوجب التخفيف فيها بالترخُّص؛ لأن هذه المشقة تقرَّرت مع هذه التكاليف، وإنما الذي يقتضي التخفيف بالترخُّص، هي المشاقُّ التي تنفكُّ عن هذه التكاليف، كأن قام بالمكلَّف عُذْر يشُقُّ معه الإتيان بالعزيمة فيما كُلِّف به.
وقد اعتبر الشارع المشقة في بعض أسباب الترخُّص، ولم يعتبرها في البعض الآخر؛ لأن من أسباب الترخص ما يعسُر ضبط المشقة فيه، فناط الشارع الرخصة بالسبب المرخِّص.
ولما كان المرض من بين هذه الأسباب، وقد ورد ذكره مطلقًا في النصوص الشرعية الدالَّة على جواز الترخُّص به، فإن الفقهاء اختلفوا في اعتبار المشقة في الترخص به، وعدم اعتبارها، فمنهم مَن اعتبر في الرخصة جنس المرض، ولو لم يكن متضمنًا لمشقة، فرخص للمريض في الفطر في رمضان مطلقًا، ولو لم تلحقه مشقة أو حرَج من الصيام، ومنهم مَن اعتبر في الترخص بالمرض نوعَه، وحدَّد المشقة في تحصيل العبادة مع هذا المرض تبعًا لهذا النَّوع، فاعتبر المرض الشديد مُرَخِّصًا؛ لأنه يشق معه أداء العبادات مشقة شديدة، أما إذا لم يكن المرض كذلك، فإنه لا يشق أداء العبادات معه، فلا يترخَّص به.
ولما كانت التكاليف الشرعية مَنُوطةً بوُسع المكلَّف وطاقته، فإن من المرضَى مَن لا يُمكِنه الصيام بحال، كالمريض الذي لا يُرجَى بُرؤُه، إذا عجز عن الصيام، ومثل هذا لا صوم عليه باتفاق الفقهاء، لقول الحق سبحانه: (وَما جعلَ عليكُمْ في الدينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله، تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسْعَهَا) وهذا المريض لا يسعه أداء مثل هذا التكليف، فلا يجب عليه، ومِن المرضى مَن يُمكنه الصيام، إلا أنه يَخشى الهلاك أو الأذى الشديد بالصوم، بأن خاف تلف عضو من أعضائه بالصيام، أو فوات منفعة هذا العضو، ومثل هذا المريض اتفق جمهور الفقهاء على أنه يجب عليه الفطر في رمضان؛ لما في صومه مع مرضه هذا من تعريض نفسه للهلاك، وقد نهى الحق سبحانه عنه، فقال، تعالى: (ولا تقتُلوا أنفُسَكم إنَّ اللهَ كانَ بكم رحيمًا)، وقال سبحانه: (ولا تُلقُوا بأيدِيكُمْ إلى التهْلُكَةِ)، ولأن حفظ النفس واجب، ولا يتأتَّى حفظ نفس هذا المريض إلا بترك الصوم، فكان تركه واجبًا؛ لأنه وسيلة إلى أمر واجب، وهو حفظ النفس، ومن المرضى مُن يُمكنه الصيام، ولا يخشى من الصوم هلاكًا أو أذًى شديدًا، وهذا المريض إن كان مريضًا بمرض يسير، كالصُّداع والقُرْحة اليسيرة، ووجع الضرس، وأشباه ذلك، فقد رخَّص في الفطر به ابن سيرين وعطاء والظاهرية؛ أخذًا من إطلاق المرض في قوله، تعالى: (فمَن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أُخَرَ) إلا أن هذا من مذهب مرجوح، لا ينبغي التعويل عليه؛ لأن المرض اليسير لا ينال صاحبه مشقة إن صام معه، ولا يُوقِعه ذلك في حرَج، فلم يقم به ما يقتضي التيسير والتخفيف.
ولهذا فقد ذهب جمهور الفقهاء: “الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ” إلى أن المرض الذي يُرخِّص في الفطر، هو المرض الشديد، الذي يَزِيد بالصوم، أو تحدُث للمريض به مُضاعفات، أو يُخشَى بُطْء بُرئِه، أو حدوث مرض آخر، أو يَشُقُّ الصيام معه مشقة ظاهرة، أو نحو ذلك، للآية السابقة، وليس مطلَق المرض فيها مما تُناط به هذه الرخصة؛ لأن مطلق المرض لا يصلُح ضابطًا مطلقًا للترخُّص في الفطر؛ لأن الرخصة به، إنما هي للمشقة والحرج في الصوم، تيسيرًا وتخفيفًا عن المريض، وهذه المشقة لا تُتَصَوَّر في المرض اليسير، الذي لا يُؤثِّر الصوم معه، ولا ينال المريض به حرَج أو ضرَر من الصوم، فنِيطَت الرخصة بما يُخاف الضرر منه لا غير، فوجب اعتباره فيها.
والذي يُعَوَّل على قوله في المرض المُرَخِّص في الفطر، هو الطبيب المسلم، العدل، الثقة، الحاذق في الطب، أو المريض الذي يصدُر عنه القول في المرض عن معرفة لنفسه ـ إن كان عارفًا بذلك، من تجربة سابقة له مع هذا المرض في نفسه، أو في غيره من مُقارِب له في المِزاج ـ والمراد بمعرفته لذلك، علمُه أو ظنُّه بأن هذا المرض يُخشَى معه الضرر عند الإتيان بما هو عزيمة في العبادات، فلا عبرة بالشك أو الوهم في ذلك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.