الصدقة في اللغة تعني العطاء بدون مقابل، وهي مشتقة من “الصدق” لأنها تعبر عن صدق إيمان المتصدق، بينما تعرف في الشرع، على أنها كل ما يُعطى تقربا إلى الله تعالى بهدف نيل الأجر والثواب، سواء كان مالا، طعاما، أو أي شكل من أشكال المساعدة.
وقد جاءت الكثير من الآيات والأحاديث التي تحث على الصدقة وتبين فضلها. قال الله تعالى في القرآن الكريم:
“الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة: 274).
وقال رسول الله ﷺ: “اتقوا النار ولو بشق تمرة” (رواه البخاري).
وللصدقة فوائد عظيمة تعود على الفرد والمجتمع، منها:
– رفع البلاء.
– زيادة البركة.
– تحقيق التكافل الاجتماعي.
– مضاعفة الأجر والثواب.
– تطهير النفس والمال.
– إطفاء غضب الله.
الرجوع في الصدقة قبل قبضها:
إن من عزم وهم ونوى على الصدقة فلا يخرج المال بهذا العزم عن ملك صاحبه؛لأن الصدقة لا تخرج عن ملكها إلا إذا قبضها المتصدق عليه، وأما قبل ذلك فلا، ودليل هذا أن سيدنا سعد بن أبي وقاص قال (يا رسول الله , إن من توبتي : أن أنخلع من مالي , صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله ﷺ : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فسيدنا سعد هنا نوى ، وعزم ، بل وتكلم إلا أن ذلك لم يخرج ماله عن ملكه فأرشده النبي ﷺ إلى عدم ذلك.
يقول العلامة ابن دقيق العيد في شرحه للحديث السابق:-
واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن من نذر التصدق بكل ماله : اكتفى منه بالثلث . وهو ضعيف ; لأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة , حتى يقع في محل الخلاف وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها ولم يقع بعد , فأشار عليه السلام بأن لا يفعل ذلك , وأن يمسك بعض ماله وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه هذا ظاهر اللفظ، أو هو محتمل له , وكيفما كان : فتضعف منه الدلالة على مسألة الخلاف , وهو تنجيز الصدقة بكل المال نذرا مطلقا , أو معلقا .انتهى.
ويقول العلامة النووي الشافعي:-
من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئا يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع , لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه , فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك المعين استحب له ألا يعود فيه , بل يتصدق به على غيره , فإن استرده وتصرف فيه جاز ; لأنه باق على ملكه .انتهى.
ويقول ابن قدامة الحنبلي في المغني:-
المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض . وهو قول أكثر الفقهاء منهم ; النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك , وأبو ثور : يلزم ذلك بمجرد العقد ; لعموم قوله عليه السلام : { العائد في هبته , كالعائد في قيئه } . ولأنه إزالة ملك بغير عوض , فلزم بمجرد العقد , كالوقف والعتق، وربما قالوا : تبرع , فلا يعتبر فيه القبض , كالوصية والوقف . ولأنه عقد لازم ينقل الملك , فلم يقف لزومه على القبض كالبيع .
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف , فروى عروة ، عن عائشة – رضي الله عنها – أن أبا بكر رضي الله عنه , نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما مرض , قال : يا بنية , ما أحد أحب إلي غنى بعدي منك , ولا أحد أعز علي فقرا منك وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا , ووددت أنك حزته أو قبضته , وهو اليوم مال الوارث أخواك وأختاك , فاقتسموا على كتاب الله عز وجل .
وروى ابن عيينة , عن الزهري , عن عروة , عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر بن الخطاب , قال : ما بال أقوام ينحلون أولادهم , فإذا مات أحدهم , قال : مالي وفي يدي . وإذا مات هو , قال : كنت نحلته ولدي ؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد , فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغارا.
قال المروذي : اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي , أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة . ولأنها هبة غير مقبوضة , فلم تلزم , كما لو مات قبل أن يقبض , فإن مالكا يقول : لا يلزم الورثة التسليم , والخبر محمول على المقبوض , ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق . لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى , فخالف التمليكات , والوصية تلزم في حق الوارث , والعتق إسقاط حق وليس بتمليك , ولأن الوقف والعتق لا يكون في محل النزاع في المكيل والموزون . انتهى.
حكم الصدقة بكل المال:
يختلف الأمر باختلاف الأشخاص، فمن كان يعرف من نفسه أنها لن تجزع على ما أخرجت وتصدقت، وأنها لن تتطلع من جديد إلى مثل ما أخرجت فيجوز … بل يستحب، وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق حيث خرج من ماله كله أكثر من مرة.
وأما إذا كان يعرف من نفسه الجزع وعدم الصبر، وضيق النفس، وتطلعها كهذه المرأة فلا يجوز، ودليل هذا (أن سيدنا سعد بن أبي وقاص قال (يا رسول الله , إن من توبتي : أن أنخلع من مالي , صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله ﷺ : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
يقول العلامة ابن دقيق العيد في شرحه لهذا الحديث للحديث:-
فيه دليل على أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراج كله في الصدقة . وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان , فإن كان لا يصبر على الإضاقة كره له أن يتصدق بكل ماله , وإن كان ممن يصبر : لم يكره انتهى.
ما هي حدود الصدقة:
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:-
يستحب أن تكون الصدقة بفاضل عن كفايته , وكفاية من يمونه , وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم . ومن أراد التصرف بماله كله , وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك , وإلا فلا يجوز . ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفقة نفسه عن الكفاية التامة . وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية وقال المالكية : إن الإنسان ما دام صحيحا رشيدا له التبرع بجميع ماله على كل من أحب . قال في الرسالة : ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله . لكن قال النفراوي : محل ندب التصدق بجميع المال أن يكون المتصدق طيب النفس بعد الصدقة بجميع ماله , لا يندم على البقاء بلا مال . وأن ما يرجوه في المستقبل مماثل لما تصدق به في الحال , وأن لا يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه , أو لمن تلزمه نفقته , أو يندب الإنفاق عليه , وإلا لم يندب له ذلك بل يحرم عليه إن تحقق الحاجة لمن تلزمه نفقته , أو يكره إن تيقن الحاجة لمن يندب الإنفاق عليه ; لأن الأفضل أن يتصدق بما يفضل عن حاجته ومؤنته , ومؤنة من ينفق عليه .
ويقول ابن قدامة : الأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام لقوله عليه الصلاة والسلام : { خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى , وابدأ بمن تعول } ولأن نفقة من يمونه واجبة والتطوع نافلة , وتقديم النفل على الفرض غير جائز . فإن كان الرجل لا عيال له , فأراد الصدقة بجميع ماله وكان ذا مكسب , أو كان واثقا من نفسه يحسن التوكل والصبر على الفقر والتعفف عن المسألة فحسن , وروي عن عمر – رضي الله عنه – قال : { أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي , فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما , فجئت بنصف مالي , فقال رسول الله ﷺ : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله . قال : وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله ﷺ : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله , فقلت لا أسابقك إلى شيء بعده أبدا } قال ابن قدامة : فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – لقوة يقينه , وكمال إيمانه , وكان أيضا تاجرا ذا مكسب , فإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين كره له التصدق بجميع ماله . فقد قال النبي ﷺ : { يأتي أحدكم بما يملك , ويقول هذه صدقة , ثم يقعد يستكف الناس , خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى } ; ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر , وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم , فيذهب ماله , ويبطل أجره , ويصير كلا على الناس .
واتفق قول الشافعية مع سائر الفقهاء في : أن ما يحتاج إليه لعياله ودينه لا يجوز له أن يتصدق به , وإن فضل عن ذلك شيء , فهل يستحب أن يتصدق بجميع الفاضل ؟ فيه عندهم أوجه , أصحها : إن صبر على الضيق فنعم , وإلا فلا بل يكره ذلك , قالوا : وعليه تحمل الأخبار المختلفة الظاهر. انتهى.
هل معرفة الناس بالصدقة يبطل أجرها:
الصدقات والإنفاق في وجوه الخير مشروع سرا وعلانية، فإذا كانت العلانية أصلح شرعت، وإذا لم تكن هناك حاجة للعلانية فالسر أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأكمل، وأنسب للمعطى، فإن المعطى قد يكره العلانية، لكن إذا كانت هناك مصلحة في العلانية شرعت العلانية؛ كأن يدعو إلى إنشاء مشروع خيري، أو يجتمع الناس على مشروع خيري فيطلبون من إخوانهم المساهمة في ذلك علنا حتى يتعاونوا ويتتابعوا في الخير.